شبكة الراهن الاخبارية

رسائل من المنفى (8)

نزار عبدالله بشير

” خمسةُ أكوابٍ من القهوة، ومئات المقاطع الموسيقية، وملايين البشر ولكني وحدي.. “
ها آنذا مجدداً أقف حائراً أمام شوقي، وحبي تمتحنه مقدرتي على التعبير، لم تكتبِ لي يوماً حرفاً واحداً ولكنك قُلتي كل كلمات الحب التي يمكن أن تُقال، أنا على ما يرام كل ما في الأمر أن الليالي بعيداً عنكِ كئيبة، لا لون لها، شديدة البرد وقاتلة بالحرارة، والناس تملأهم القسوة والعالم فارغٌ في غيابك..
إبن الخمسة أعوام يا أمي تخطى الثلاثين، وصار كهلاً بقلبه، مُتعبٌ من كل شئ، منذ أن فارقت أصابع يدك المباركة شعر رأسه؛ غزاهُ الشيب، و حين غابت لمستك الحانية عنه أصابه مرض النسيان؛ فأصبح منسياً لا يتَذَكر ولا يُتَذكر..
كم أخشى عليكِ من صور الحرب وأخبارها، وانت التي كنتِ ترقين لحال الذين تعرضهم شاشات التلفاز، وتبكين أطفال غزة، بكيتي حروب العالم أجمع، ولم تجدِ مَن ينظر معك إلى بلادِك التي أحرقتها الحرب..
الحرب يا أمي كيئبة، أحالتنا إلى مجرد هياكل فارغة من الأحلام والطموح والرغبة، مسحت ذاكرة الجميع من كل شئ، وأضفت على أعينهم غشاوة وعلى قلوبهم قسوة..
العامُ في الحربِ أعوام..
ونحن قد تخطينا أعواماً لا ندري عددها، ولكننا نعرفها بعدد الندوب التي خلّفتها فينا، بعدد الذين إختاروا الرحيل دون أن يقولوا حتى سبباً واحداً، الحرب مسحت عليهم من روحها فإكتسب الناس صفاتاً غير التي كانوا يعرفونها، تغيروا يا أمي، حتى أولئك الذين أقسموا بأن يظلوا على هيئتهم الطيبة إلى الأبد.
هل لا زال القمرُ مضيئاً بكِ.. ؟
كيف حال الليالي الطويلة، هل ما زالت تأخذ منك صبرها ويقينا بالمستقبل.. ؟
هل ما زالت شجرة الأراك على ناصية دارنا الفسيحة تأخذ شهيقها منكِ؟
كيف حالكِ أنت.. ؟
أعنيها حرفاً حرف، معنىً وتعبير، أعرف أنك كعادتك تتظاهرين بأنك بخير وأقوى من كل الظروف والتحديات، دوماً كان بيدك السحر لتحلي مشاكلنا أجمعين دون ملل، مَن أراد تذكيراً كنتِ له مُنبِّه، ومن أراد مالاً كنتِ بنكاً لا ينضب، ومن أراد دعماً كنت جبلاً لا يتزحزح حتى يصل وجهته التي أراد، هل أنت بخير.. ؟
كنت ساذجاً في الصغر؛ حين أعتقدت أن الإنسان كلما تقدَّم به العمر، أصبح أقل إعتماديةً وحاجة لوالديه؛ أثبتت لي الأيام خطأي، وعلمتني قاسياً أن الإنسان كلما كبر في العمر يوم؛ كلما أصبح أكثر حاجةً لأمه؛ وأنا يا أمي في ذلك قد بلغت الثمانين، تخطيت سني العمر سريعاً فهل مِن لقاء.. ؟
كنتُ البارحة أقرأُ كتاباً لأقاوم السهد الذي ظل يلازمني منذ فارقتك؛ حيلة جديدة تعلمتها لأستثير غيرة النوم، ترآءت لي ملامح وجهك في المصباح، رأيت ذات النور الذي كان يغزو قلبي منذ وعيتُ على الدنيا، تذكرتُ سنوات الدراسة القاسية، كنت أسهر ثلثي الليل، وتصرين على أن تبقي مستيقظة بجانبي، حين أحاصرك بالأسئلة تتحججين بأنك لا ترغبين في النوم، الآن فهمت معنى أن يسهر معك لساعةٍ واحدة وليس عمراً بأكمله، درسٌ جديد تعلّمته اليوم يا أمي..
تعودتُ أن تكون رسائلي في مارس من كل عام فأستغل فرح الناس بعيد الأم لأدس وسطهم رسائلي إليك، ولكن الشوق لا يعترف بالتقويم، فأطل مارسٌ جديد في قلبي، شعورٌ أجبرني على الكتابة، فأنا يا أمي كما ترينني دائماً طفلُ تعبيرٍ أمامك؛ كلما حاولت أن أقول شيئاً مفيداً تخرج أتعلثم وتخرج الكلمات على هيئة تمتة وثغثغة، ولكنك كنتِ تفهمينني على الدوام، فهل ستفهمينني اليوم..
حاولتُ أن أتجاهل شعور الكتابة هذا الذي إعتراني لأيامٍ طويلة، وقاومت لأدخر من التعابير شئ حتى مارس القادم، ولكنني هُزِمت أمام الشوق إليك والحنين نحوك..
لست بارعاً في التعبير، ولا مقتدراً بالكتابة، ولكنني لا أعترف بالعجز، فها أنا أحاول أن أقول شيئاً، ورغم ذلك تجدينني لم أقل جملةً واحدة مفهومة، ولكنني على يقين بأنك تفهمين ما أردت قوله من دون العالم أجمع..
أريد كتابة الكثير، ولكن أي لغةٍ هذه توازي حجم الشعور الذي يعتمل بداخلي، أجزم أنني لو كتبت إسبوعاً كاملاً بلا توقف لما قلت شيئاً واحداً من ما أشعر به نحوك، هذه المرة سامحينني على التقصير، فهذه عادتي في الخطأ وعادتك في الغفران، سلامٌ لك بلك اللغات واللهجات، سلامٌ أقتبسه مِن تعبيرٍ ماثلني الشعور
“ليكِ سلامي ما محدود من الأرقام يزيد..
عدد ذرات تراب الكون جبال وسهول وبيد
عدد ما أشرقت أنوار وطل صباح جديد “

المزيد من المشاركات
  • مَن شرَّفه الله من دون العالمين أن يكون إبناً لكِ.

نزار عبدالله بشير

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.