لن يعرف أحد شعور الفقد على وجه التحديد حتى يجربه، مهما تعاطف معك المحبون يبقى في قلبك ثُقبٌ أسود تدخل منه الفجيعة كل يوم..
كنت أشفق على الذين فقدوا أحبتهم من الليالي الأولى التي تمر عليهم والوحشة تغرقهم من فوقهم ومن تحتهم، عن النومة الأولى التي تلي الفراق، عن صورهم التي بقيت عالقة بين الذاكرة والقلب..
لا شئ أعز على المحبين من مُتعلقات أحبتهم، صورهم، رسائلهم الصوتية، شخبطاتهم بسيطة التعبير، قوارير عطرهم الفارغة، كل شئ يجب أن يبقى للأبد…
في زمان الصور الفوتوغرافية وحين كان الأعزاء يهدون نسخاً من صورهم للذين يحبونهم، كان لدى أحدهم إلبوماً من الصور ليس فيه سوى صور محبوبه كان يقلبه كل يومٍ وكأنه يراجع دروسه التي سيمتحن فيها، أو ربما أراد حفظ ملامح وجه محبوبه المطبوعة على القلب…
حين دارت الأيام وتفرقت السبل بالأحبة، بقيت تلك الصور تحمل حياة بأكملها، ولكنها صنعت واقعاً موازياً أكثر مرارة، كانت تحمل من الدموع ما يكفي لأن تبكي صاحبها كل يوم، وحين طال أمد المعاناة قرر أن يحرق ذكرياته فأشعل النار فيها…
كنت أشاهده يراقب النار وهي تلتهم الصور واحدةً تلو الآخرى، بينما كانت عيونه تودعها للمرة الأخيرة، كنت أشعر بقلبه يحترق مع كل صورة تمسها النار….
ولكن هل منحه ذلك الفعل النسيان المنشود..؟؟
في العلاقات بين الأحبة، أحدهم يمضي في حياته قُدماً ويطأ في دربه كلما من شأنه أن يعيق هذه المسيرة، وأول ما يفعل قلب الذين أحبوه بصدق…
بينما يبقى أحدهم عالقاً يأكله الحزن وتستبد به الذكريات، ولا يتحرك من ماضيه، ويتمنى لو أن يقتلع قلبه بما حمل من بشر ويرميه ولكنه يستلذ بعذابات المحبوب الآفل…
النسيان ثمنٌ غالي لن يحصل عليه الجميع، ولا يستحقه الجميع، هناك أشخاص مروا على الذاكرة وكأنهم لم يكونوا يوما…
العابرون على القلوب كمحطات الإنتظار، الذين لم يعرفوا من المحبة سوى اللقاء والأنس على أطراف اللحظات العابرة..
أعرف أشخاص أحرقوا قلوبهم وأعمارهم كالفراشات، في سبيل البقاء ولكنهم لم يجدوا سوى النسيان جزاءاً لذلك أتفهم الذين جزعوا من الفراق وبكوا كالأطفال عنده..
أنشد حسب الباري سليمان ذات مرة:
” نسانا حبيبنا..
وعارف ريدنا هولو
عشانو بتبكي..
قلوبنا وراء رحيلو..”
هذه الشكوى التي قدمها هذا الشاعر لم تكن سوى شعوراً واحداً من آلاف المشاعر التي تختلج بالقلب في لحظات الفراق الأولى…
أعرف أشخاصاً لو أن النسيان يُباع، لإشتروا حصة العالم أجمع في سبيل أن يتجاوزا لحظة واحدة أبقتهم أسرى طول العمر…
من أين لي بالنسيان لننثره على رماد العمر الباقي وننقذ ما تبقى من شعور في سبيل أن لا يموت أحدهم كل ليلة ويستيقظ ليتعذب في اليوم التالي..
” الأحبة هاجرو..
أخذوا المكان وهاجروا “
هكذا بكى درويش حين غمره الفقد وملأته الوحشة، غياب الأحبة مؤلم ونسيانهم غاية لا تُدرك لأن الأمر تخطى مقدرة الفرد على التمني والفعل..
هناك بين جنبات الخافق الكثير من الأحبة الذين ظلت صورهم عالقة منذ زمنٍ بعيد، وآخرون لا نتذكر حتى متى جاءوا إلى القلب…
ثنائية الرحيل والبقاء يحددها النسيان، فالأمر طردي، كلما كان الرحيل فاجعاً قاسياً كلما كان النسيان أشبه بتخصيب اليورانيوم..
و…
« لو إتذكرنا..
أو لو طيفنا مَر..
كان يا حليلو..
عرف الفُرقة مُرة..»
نزار عبدالله بشير
مايو 2024