بقلم: أحمد يوسف دياب
في ليلة من ليالي مملكة الأحلام، جلس يحي فضل الله على بنبر عتيق، يسترجع ذكريات رفقاء الدرب، يناجيهم بصوت ممتلئ بالشجن والحنين. “يا مصطفى سيد أحمد، يا عبد العزيز العميري، يا عمر الدوش، ليتكم تسمعوني. يا ليتنا نمشي سوياً حيث يشتهي دائماً الوتر الغناء، ونتربع على بنبر مريم بنقز في مملكة الأحلام.”
في تلك المملكة السحرية، سمعنا أجمل وأروع القصائد من الشعر المقفى والمنثور والحر. قصائد نزار قباني والجواهري ومظفر النواب وأحمد شوقي والبردوني ومحمود سامي البارودي، ومنثور نازك الملائكة ومحمود درويش وسميح القاسم ومطر السياب. عندما يقول السياب:
“عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
مطرٌ
مطر
مطر”
تداعى يحي في شوق وحرقة، يروي قصة تطعن في الحلق. “يا سلااام، شوف الفرجوني قال جاه ضيف فوق راس حداشر. رحب الحاج بيهو جداً، نزلوه وفرشولو، وكاسو للعَشاء ما إتلقى. عمنا الحاج ضاقت بيهو العريضة، ما عَشاء الضيف زي فريضة. ضيفو كيف يترك عشاهو ومن دي زايد اختشاهو.”
في مملكة الأحلام، تعرفنا على أجمل الرجال البسطاء مثل مصطفى الدرويش وحمد الجزار والنعيسان. ومن النساء، منى صاحبة مريم بنقز وآخرون لا تسعفنا الذاكرة لتذكرهم. وتداعى يحي فضل الله يترنم:
“درب روح
درب غرقان
وتائه جوه في العتمة
بداية السكة جوايا
نهاية السكة ودايا
وقميرة السعد راجياني
على البلد البقت ضلمة”
امتدت صفارة يحي حتى تجاوزت أذن ود النعيسان وذابت ممتدة في فناء المملكة. سمع حامد صفارة يحي المملوءة بالشجن العميق خارج سور مملكة الأحلام وجاء مسرعاً مع عمق النغم. أما عبد الباسط، فإشار باصبعه مترنحاً نحو الجميع: “كلكم بره، يلا من هنا، اطلعوا بره.” فخرج عبد الباسط يترنح لما فيه من سكر وتبعه جاد المولى.
وصوت الصفارة يمتد، ومريم بنقز تعزف بأنامل رخوة تلامس الإيقاع بفتور تماشياً مع الصفارة. سمع الجميع توليفة لسيمفونية حزينة مجهولة المؤلف، فشرخ ذلك النغم الحزين الصمت الذي خيم على الجميع. أعاد ذلك النغم إلى الذاكرة تلك الريح الحلزونية التي حملت معها نشوة غامضة.
وبين الرؤيا والاحتجاب، خرج الأستاذ عثمان أبو وجعه خفيفاً كنسمة، كأنه تذكر شيئاً. وتداعى يحي مستدركاً:
“يا ضلنا، يا ضلنا..
يا ضلنا المرسوم..
على رمل المسافة..
وشاكي من طول الطريق..
قول للبنية..
الخايفة من نار الحروف..
تحرق بيوتات الفريق..
قول ليها ماتتخوفي.”
وسكت يحي في نص الأغنية، شهق زفيراً ساخناً وقال:
“آااه يا أبو السيد، يا لهف نفسي عليك، آااه.” وغاص يقلب ذاكرته المشحونة، وسال الدمع مطر.
تداعت صور أغنية سعاد لصديقه الدوش، وتفجر صوت كابلي في المقطع: “البت سعاد، البت سعاد، آه يا سعاد.” بكل هذه المشاهد والصور المتداعية من ذاكرة الرجل الفنان الشامل، يحي فضل الله يجلس على بنبر عتيق في قلب مملكة الأحلام، ويفوح عبق النشوة من قلوب أعضاء المملكة فرحين في آخر انبساط. على رأسهم مريم بنقز صاحبة المكان، ومصطفى الدرويش وعبد الباسط الميكانيكي وحمد الجزار وود النعيسان تاجر البخور والأستاذ عثمان أبو وجعه.
ويتقاسم الجميع الأغنية في صوت كورالي، كلٌ بما يملك من حنجرة وتطريب:
“ميل وعرض كتر أمراضي
بي هواكم والهوان راضي
جن ليلي وهاجت أعراضي
سح دمعي وطاشت أعراضي
وانت داري وغاضي ما راضي”
التف كل الحضور حول ذلك المجلس الصغير داخل مملكة الأحلام، حيث تقاسموا الحلم والذكريات والأغاني، في ليلة لا تنسى.
- أحمد يوسف دياب/ خاص لشبكة الراهن الإخبارية