محمد التهامي/ السودان
فِي تِلْكَ الأَيَّامِ كَانَ الجَمِيعُ خَائِفِينَ جِدًّا، وَلَكِنَّ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ.” بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ المِلْئِيَةِ بِالرُّعْبِ وَالتَّصْمِيمِ، تَبْدَأُ تِرِيسَا رُوسْكُوشْكَة، راهِبَةٌ مِن بُولَنْدَا، حَدِيثَهَا عَنْ رِحْلَةِ الصُّمُودِ وَالإِجْلَاءِ الصَّعْبَةِ الَّتِي عَاشَتْهَا مَعَ زَمِيلَاتِهَا وَأَطْفَالٍ وَنِسَاءِ فِي دَارِ مَرْيَمَ بِجَوَارِ مِنْطَقَةِ الشَّجَرَةِ العَسْكَرِيَّةِ بِالْخَرْطُومِ. قُرَابَةُ السِّتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا عَاشُوا تَحْتَ وِطَأَةِ القَصْفِ العَشْوَائِيِّ، وَانْقِطَاعِ الاتِّصَالاتِ وَالكَهْرَبَاءَ، مُحَاوِلِينَ الحِفَاظَ عَلَى الأَمَلِ وَحِمَايَةِ الأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ هَذا الجَحِيمِ.
فِي أَبْرِيلَ 2023، اندَلَعَتِ الاشتباكاتُ المُسَلَّحَةُ فِي السُّودَانِ بَيْنَ الجَيْشِ وَقُوَّاتِ الدَّعْمِ السَّرِيعِ، حَيْثُ أَصْبَحَتِ الخَرْطُومُ مَرْكَزًا لِلصِّرَاعِ. تَحَوَّلَ الأَمْرُ سَرِيعًا إِلَى حَالَةٍ مِنَ الفَوْضَى وَالدُّمَارِ، وَحَاصَرَ الرُّعْبُ السُّكَّانَ المَدَنِيِّينَ فِي مَنَاطِقِهِمْ. مِنْطَقَةُ الشَّجَرَةِ العَسْكَرِيَّةُ كَانَتْ وَاحِدَةً مِنَ المَنَاطِقِ الأَكْثَرِ تَأَثُّرًا، حَيْثُ تَعَرَّضَتْ لِقَصْفٍ عَشْوَائِيٍّ مُسْتَمِرٍ، مَا جَعَلَ الحَيَاةَ فِيهَا جَحِيمًا لَا يُطَاقُ.
عَلَى مُقَرَّبَةٍ مِنْ هَذا الدُّمَارِ، كَانَتْ كَنِيسَةُ دَارِ مَرْيَمَ الصَّغِيرَةُ تقاوم على أمل البَقَاءَ. كَانَتِ الكنِيسَةُ مَلَاذًا آمِنًا لِلأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمَلْجَأً لِلْخَائِفِينَ مِنْ وِيلَاتِ الحَرْبِ. “عِنْدَمَا بَدَأَتِ الحَرْبُ، لَمْ نُصَدِّقْ فِي البِدَايَةِ مَا كَانَ يَحْدُثُ”، تستطرد تِرِيسَا في حديثها. لَكِنَّ سَرِيعًا مَا أَدْرَكْنَا حَقِيقَةَ الوَضْعِ عِنْدَمَا بَدَأَ النَّاسُ بِالْفِرَارِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ. “بَدَأَتِ الأُسَرُ تَأْتِي لِأَخْذِ أَطْفَالِهِمْ، كَانُوا يَقُولُونَ: “أَرْسِلُوهُمْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَنْزِلِ لِأَنَّهُ صَعْبٌ جِدًّا”. وبحسب إفادة الراهبة تريسا فإن الأَطْفَالُ عاشوا فِي خَوْفٍ دَائِمٍ، بَعْضُهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا العَوْدَةَ لمَنَازِلِهِمْ، وَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، ظَلُّوا فِي الكَنِيسَةِ مُحَاطِينَ بِالمَحَبَّةِ وَلَكِنَّ فِي مُوَاجَهَةِ الخَطَرِ المُتَزَايِدِ.
مَعَ مُرُورِ الأَيَّامِ، ازْدَادَتْ صُعُوبَةُ الحَيَاةِ فِي الكَنِيسَةِ. “بَعْدَ أُسْبُوعَيْنِ، بَدَأَتِ الأُمُورُ تُصْبِحُ صَعْبَةً جِدًّا. لَمْ نَكُنْ نَسْتَطِيعُ فِعْلَ الكَثِيرِ مِنَ الأَشْيَاءِ”، تُضِيفُ تِرِيسَا. عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الظُّرُوفِ القَاسِيَةِ، كَانَتِ الرَّاهِبَاتُ يُحَاوِلْنَ توزيع الطَّعَامِ لِلْأَطْفَالِ مِنَ المُخْزُونِ القَلِيلِ المُتَبَقِّي مِنْ مُخْزُونِ المَدْرَسَةِ. “كَانَ لَدَيْنَا فِي مُخْزَنِنَا بَعْضُ الطَّعَامِ مِنَ المَدْرَسَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّ يَوْمياِ، نُعْطِي الطَّعَامَ لِأَطْفَالِنَا”. هَذِهِ الأَطْعِمَةُ القَلِيلَةُ كَانَتْ تُوَزَّعُ بِحَذَرٍ عَلَى الأَطْفَالِ، لَكِنَّ سَرِيعًا مَا بَدَأَ المُخْزُونُ يَنْفَدُ.
شكلت الكنيسة مأوى لكثير من الأسر بمنطقة الشجرة جنوبي الخرطوم، وقال القائمون على أمر الكنيسة إنه ومَعَ مُرُورِ الوَقْتِ، بَدَأَ يَتَوَافَدُ المَزِيدُ مِنَ النَّاسِ إِلَى الكَنِيسَةِ بَحْثًا عَنْ مَلَاذٍ، بَعْدَمَا فَقَدُوا مَنَازِلَهُمْ نَتِيجَةً لِلْقَصْفِ. وذكروا في إفاداتهم أنهم كانوا يفتحون البَابَ لِكُلِّ مَنْ كَانَ بِحَاجَةٍ”، وتشير تريسا إِلَى أَنَّ الكَنِيسَةَ اسْتَقْبَلَتْ مِئَاتٍ مِنَ الأَشْخَاصِ، إلى أن أَصْبَحَتِ الكَنِيسَةُ مُكْتَظَّةً، حَيْثُ بَاتَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ 100 شَخْصٍ، بَيْنَهُمْ أَطْفَالٌ صِغَارٌ لِلْغَايَةِ.
تِرِيسَا وَزُمَلَاؤُهَا وَاجَهُوا صُعُوبَاتٍ كَبِيرَةً فِي تقسيم الطَّعَامِ وَالرِّعَايَةِ لِهَؤُلَاءِ الأَطْفَالِ، وَمَعَ كُلِّ يَوْمٍ يَمْرُ، كَانَ الخَوْفُ يَزْدَادُ. “أَحْيَانًا كُنَّا نَنَامُ فِي المَسْجِدِ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَ أَمَانًا”، تَرْوِي تِرِيسَا. وَفِي نِهَايَةِ الطَّرِيقِ، أَصْبَحَ مِنَ المُسْتَحِيلِ البَقَاءُ، وَكَانَ لَابُدَّ مِنْ اتِّخَاذِ القَرَارِ الأَصْعَبِ وهو الرَّحِيلُ.
فِي هَذا الوَقْتِ الحَرِجِ، تَدَخَّلَ الجَيْشُ السُّودَانِيُّ لِمُسَاعَدَةِ الرَّاهِبَاتِ وَمَنْ مَعَهُنَّ. كَانَ الأَمْرُ مُحَفُوفًا بِالْمَخَاطِرِ، حَيْثُ تَعَرَّضَتِ المَنَاطِقُ المُحِيطَةُ لِلْقَصْفِ، وَلَكِنَّ الجَيْشَ وفَرَّ لَهُمْ وَسَائِلَ النَّقْلِ الآمِنَةَ إِلَى مِنْطَقَةٍ أَكْثَرَ أَمَانًا.
تَرْوِي تِرِيسَا مَشَاعِرَهَا فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ: “عِنْدَمَا جَلَسْنَا فِي السَّيَّارَةِ، فَهِمْنَا أَنَّنَا سَنَذْهَبُ ولكن لا نعلم كيف، كُنَّا نَتَعَلَّمُ وَنَتَآلّمُ، حيث كَانَتْ لَحَظَاتٌ مُغَلَّفَةٌ بِالخَوْفِ وَالتَّوَتُّرِ، وَلَكِنَّ أيضًا بِالأَمَلِ فِي النَّجَاة”.
مِنْ جَانِبِهَا، تَحَدَّثَتْ سِلِسْتِينَا بَهَا، راهِبَةٌ مِنْ الهِنْدِ، عَنْ تَجْرِبَتِهَا مَعَ الحَرْبِ وَالصِّرَاعِ الَّذِي عَاشَتْهُ فِي الخَرْطُومِ، فقد وَصَفَتْ الرُّعْبَ الَّذِي شَعَرَتْ بِهِ فِي البِدَايَةِ عِنْدَمَا سَمِعَتْ صَوْتَ القَذَائِفِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَكَيْفَ تَعَلَّمَتْ التَّعَامُلَ مَعَ هَذا الخَوْفِ، قائلةً: “فِي البِدَايَةِ، كُنْتُ أَخَافُ، وَكُنْتُ أَهْرُبُ إِلَى النَّاسِ وَأَبْقَى مَعَهُمْ فِي غُرْفَةٍ، وَلَكِنَّ مَعَ مُرُورِ الوَقْتِ، بَدَأَتْ أتَفْهَمُ طَبِيعَةَ الصِّرَاعِ وَأَيْنَ تَكُونُ الأَمَاكِنُ الآمِنَة”.
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ المُعَانَاةِ، تُؤَكِّدُ الراهبة سِلِسْتِينَا أَنَّهَا وَجَدَتْ بَعْضَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي تَعَامُلِهَا مَعَ الجَيْشِ السُّودَانِيِّ، الَّذِي وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ كَانَ “جَيِّدًا وَمَحْبُوبًا”. مؤكدة ذلك بقولها: “أَنَّ الجُنُودَ كَانُوا يُشَارِكُونَهُمْ الطَّعَامَ وَالمُسَاعَدَاتِ الَّتِي كَانُوا يَحْصُلُونَ عَلَيْهَا، “كَانُوا يُشَارِكُونَ الطعام مَعَنَا”، تَقُولُ سِلِسْتِينَا بِشُعُورٍ مِنَ الامْتِنَانِ.
تَجْرِبَةُ الرَّاهِبَاتِ مَعَ الحَرْبِ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ مُوَاجَهَةٍ مَعَ الخَوْفِ، بَلْ كَانَتْ أَيْضًا دَرْسًا فِي الإِنسَانِيَّةِ وَالتَّضَامُنِ. وَسَطَ هَذا الجَحِيمِ، رَأَوْا فِي النَّاسِ حَوْلَهُمْ دَعْمًا غَيْرَ مُتَوَقَّعٍ، وَلَمَسُوا قُوَّةَ المحَبَّةِ الَّتِي تَمَكَّنَتْ مِنَ العَيْشِ فِي قُلُوبِ مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى فِي أَصْعَبِ الأَوْقَاتِ.
وَتؤكد سِلِسْتِينَا عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ الجُهُودِ، إلا كَانَتِ الحَيَاةُ فِي مِنْطَقَةِ الشَّجَرَةِ صعبة، فَكَانَ قَرَارُ الرَّحِيلِ هُوَ الخِيَارُ الوَحِيدُ المُتَبَقِّي، حيث سَاعَدَ الجَيْشُ فِي نَقْلِهِمْ إِلَى مدينة أَمْ دَرْمَانَ شمالي العاصمة الخرطوم وَمِنْهَا إِلَى مدينة بورتسودان الواقعة شرق السودان، حَيْثُ وَجَدُوا مَلَاذًا أَمْنًا أَكْثَرَ. تَتَذَكَّرُ سِلِسْتِينَا كَيْفَ كَانَتْ تَلْتَقِي بِالجُنُودِ الَّذِينَ سَاعَدُوهُمْ، وَكَيْفَ أَنَّهُمْ حَاوَلُوا بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ أَنْ يُوَفِّرُوا لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ، حَتَّى أَنَّهُمْ سَاعَدُوهُمْ فِي نَقْلِهِمْ إِلَى بَرِّ الأَمَانِ لِلذَّهَابِ إِلَى أُسَرِهِمْ.
الحَرْبُ فِي السُّودَانِ، الَّتِي اندَلَعَتْ فِي أَبْرِيلَ 2023، تَسَبَّبَتْ فِي دَمَارٍ وَاسِعٍ النِّطَاقِ وَخَلَّفَتْ وَرَاءَهَا آلَافًا مِنَ القَتْلَى وَالمُشَرَّدِينَ. الْمِلَايِينُ مِنَ السُّودَانِيِّينَ اضْطَرُّوا لِلْفِرَارِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ بَحْثًا عَنْ الأَمَانِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، تَكَاتَفَ الكَثِيرُونَ فِي مُوَاجَهَةِ هَذا الخَرَابِ، مُحَاوِلِينَ الحِفَاظَ عَلَى إِنسَانِيَّتِهِمْ فِي وَجْهِ الكَارِثَةِ.
قِصَّةُ الرَّاهِبَاتِ مِنْ كَنِيسَةِ دَارِ مَرْيَمَ لَيْسَتْ إِلَّا مِثَالًا وَاحِدًا عَلَى مَا يُعَانِيهِ النَّاسُ فِي السُّودَانِ. إِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى الصُّمُودِ، وَالإِيمَانِ، وَالتَّضَامُنِ الإِنسَانِيِّ فِي أَصْعَبِ الظُّرُوفِ. وَهِيَ تَذْكِرُنَا بِأَنَّ الإِنسَانِيَّةَ قَادِرَةٌ عَلَى البَقَاءِ حَتَّى فِي أَحْلَكِ الأَوْقَاتِ، عِنْدَمَا يَتَكَاتَفُ النَّاسُ مَعًا لِلنَّجَاةِ.
تم توليد الأسئلة، وترجمة المقابلات، و التشكيل اللغوي بواسطة الذكاء الاصطناعي.