شبكة الراهن الاخبارية

عثمان خالد، مظلوم فارقت مسارح الناس

نزار عبدالله بشير

في خواتيم ستينيات القرن الماضي أطل صوتٌ شعري تمرد على المعتاد من المفردات و إختط لنفسه طريقاً مميزاً في عوالم النظم الشعري من خلال كثافة العاطفة في الكلمة الشعرية..

كان عثمان خالد علامة فارقة في تاريخ الأغنية السودانية منذ أول أغنية نظمها في حياته ( إلى مسافرة) و التي تغني بها حمد الريح في العام 1968م.

كادت الدهشة تلجم السامعين لتلك التجربة الشعرية، حينما عرفوا أن عثمان خالد نظم تلك الكلمات و هو ابن الخامسة و العشرين من عمره، حيث جاء بمفردات تخاطب الوجدان و تكون سلوى لكل الذين عصفت بهم الحياة و ذهبت بهم في دروب الغربة البعيدة…

عثمان خالد الذي إبتدر مشواره في الشعر الغنائي بأغنيته الخالدة ( إلى مسافرة) كان جزلاً في مفرداته و عاطفته الشعرية حتى يخيل إليك إن الرجل إعتصر كل حرمان المهاجرين و المغادرين أوطانهم طوعاً و جبراً ليكتب تلك المناجاة في (الحبيب الراحل)..

كان ذكاؤه مشتعلاً و هو يتفق مع السائد في تلك الفترة من نمط شعري و يجاريه في المفردة المشحونة بالشجن و في التذلل للمحبوب و لكنه تفوق عليه في تجديد المفردة بل تفوق على نفسه و هو يتخطى إبتداره للنص:

” قلبي يا المقتول كمد.. “
ليحلّق بوصفه متغزلاً في ذلك الراحل :
” في شفايفو زي ياقوت ندر..
في شكلو زي نُص القمر.. “

أظن و في إعتقادي البسيط أن عثمان خالد كان ينافس مقدرته على الصياغة في كل بيت من أبيات أغنيته إلى مسافرة و هي يحاول أن يهدي ذلك المسافر كل مرة شئ أغلى..
أهديك حروف..
أهديك زهور..

و في كل مرة بتصاعد الخطاب العاطفي و يسمو النظم و المفردة حتى وصل به المقام لأن يقول :

” أهديك عيوني عشان أستريح.. “

عيونك يا عثمان خالد..؟ عيونك؟؟
و ماذا أغلى من العيون ليُهدى؟
ليس الأمر توقف عن حد إهداء العيون فقط، فلو تأملتم في المفردة لوجدتم ماهو أبلغ من ذلك و هو التبرير الذي حمّله عثمان خالد لذاك البيت ( عشان أستريح.. ) و كأنه لن يجد الراحة حتى يهدي ذلك المحبوب عيونه..

” أهديك عيوني..
عشان أستريح.. “
و قالوا أهلنا العرب:

  • البهديك عيونو ما تجازيهو بالعمى.. !!

عثمان خالد رغم أنه أنتج أربعة دواوين شعر إلا أن أغنياته تحسب على أصابع اليدين، رغم هذه القلة من الأغنيات التي كتبها شاعرنا إلا أن أغنياته سكنت الوجدان و كانت سلوىً للمحبين و العُشاق في لياليهم المسهدة الطويلة، حيث كان بها من الصدق ما يجعلها تستقر مباشرةً في حنايا القلب، و يجعل المستمع يتبناها لنفسه منذ الوهلة الأولى..

كان عثمان خالد ثورياً في عاطفته الشعرية، و لكنه كان حكيماً في ذات التوقيت؛ هذا التناقض الغريب هو ما ميز كلماته، حيث كان صادقاً في عاطفته و حكمته حيث يقول في بيتٍ واحد:
حيث يقول ثائراً في عاطفته

” ننساك.. ؟
انت انت بتتنسي.. ؟
ما انت روحنا و حبنا.. “
و في ذات البيت تقوده حكمته ليقول:
” أصلو المحبين الحُنان..
لا بنسوا لا بتحولوا.. “

كان لعثمان خالد المقدرة على إستنطاق الصوامت من المشاعر و الجمادات في مفرداته، و صياغتها في قالبٍ غير مُخلٍ بالمعنى العام، بل و مكملاً للمشهد الغنائي في لوحة لا تشبه سوى الشعراء الكبار أمثاله…

إقترن إسم شاعرنا بكبار فناني السودان الذين شكّلو الوجدان، أمثال سيد خليفة، صلاح بن البادية، ابراهيم عوض، عثمان حسين، حمد الريح و عبدالعزيز المبارك و غيرهم.. و كانت أغنياته تجد رواجاً في كل مرة يقدم فيها فناناً أغنيةً له و كأنه الوصفة السحرية لنجاح أي عمل غنائي..
تأمل مفرداته و هو يكتب لعثمان حسين:

” تمري بي عهد الرشيد..
و يغني ليك الموصلي.. “

كان قادراً على رسم لوحات من الجمال في نصوصه، حتى تخاله فناناً تشكيلياً لا شاعراً و كاتب، وهبة الله روحاً شفافة تلتقط المعاني من أقاصي الخيال و ترسمها على هيئة مفردات تصلح كلوحات تتزين بها جنبات الروح الموحشة..

أنظر إليه و هو يكتب إلى (المذهلة) رسالته التي غناها عبدالعزيزي المبارك (بتقولي لا):
” شال لون جميل من وجنتيك..
مسح خدودو و بللها.. “.

يقول في ذلك البيت أن الأصيل بألوان الغارقة في الصُفرة و الحُمرة إستعار تلك الألوان من ألوان خدي المُذهلة فمسح بها خدوده…

كان خالد رائعاً في إختياراته و في نصوصه، عميقاًو صادقاً في مفرداته التي سكنت الوجدان السوداني منذ السبعينات و حتى اليوم، حتى يوم أراد أن ينعى صديقه العميري كتب بذات الصدق و المحبة قصيدة جاء فيها:
” مظلوم فارقت مسارح الناس..“

عثمان خالد أيها الرائع.. مَن ينعى مَن؟

نزار عبدالله بشير
الخرطوم فبراير 2023

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.