“مستصغر الشرر”
سلسلة حلقات قدمت من خلال إذاعة البيت السوداني 2023.
أعدها و قدمها و أخرجها محمد عباس الباشا.
قد لا يئن التاريخ من حمل الأحداث، و لكن يبقى كاهله مثقلا بجسام أبكت العيون، و أفرزت ما لا يطاق.
و مع ذلك يبقى الدهر بساطا لكل فاعل، كأنه يقول: “اقترفوا ما أنتم مقترفون”.
صفحة الماء الهادئة يهيجها حجر صغير، من خلال هذه السلسلة نسرد “جلائل صنعتها صغائر”.
(1)
الكثير من الحروب الطاحنة التي دارت بين القبائل و الأمم ذات أسباب معقدة متراكمة؛ منها ما هو اقتصادي، و منها ماهو ديني أو اجتماعي، و غير ذلك، و لكن هناك من الحروب ما نشأ ببواعث تدهش الناظر و المتأمل.
في الحقبة السابقة لرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كانت جزيرة العرب مساحة جغرافية قليلة الموارد، و مع الشح حكم العرب منطق القوة و العلو في ما بينهم.
ذهبت امرأة مسنة من قبيلة بكر النجدية تدعى “البسوس”، لزيارة امرأة شابة تدعى “جليلة بنت مراح” و هي ابنة أختها، و معها شقيقها “جساس بن مرة”، و جارها “سعد بن شمس الجرمي”، و الذي كانت له ناقة تسمى “سراب”.
جليلة المزورة في دارها كانت متزوجة من “كليب” زعيم بني تغلب.
وصل الركب الزائر دار جليلة على ظهور الرواحل، فسمحت “البسوس” للرواحل بالرعي بعد أن حطوا عنها الرحال، و خلصوا إلى ضيافة “جليلة”.
و لما كان “كليب” سيدا لقبائل معد، و كان أكثر الناس فخرا بحماية أراضيه و مراعيه، فإنه و عندما رأى ناقة غريبة و غير معروفة ترعى بين جماله نزع سهما و وضعه في قوسه، و أرداها في الحال.
ليت ذاك السهم لم ينطلق؛ “البسوس” التي كانت في ضيافة زوجة “كليب” علمت بموت ناقتها، فاستدعت بن أختها “جساس” و طالبته ب “صون شرفها”.
أطاع “جساس” توجيهات خالته “البسوس”، و قام بقتل “كليب” ردا على قتله الناقة.
هذان الحدثان أشعلا غارات متبادلة و عنيفة بين عدد من القبائل، و أفرادها أبناء العمومة، و فشلت كل الجهود التي بذلت لتحقيق السلام و المصالحة.
يقول التراث إن حليفا لقبيلة بكر أرسل ابنه لإجراء مشاورات مع قبيلة تغلب؛ بغرض تقديم الأضاحي، تقديرا للعادات التي كانت سائدة، من أجل وقف سيل الدماء، إلا أن تغلب قتلت السفير؛ مما تسبب في إدخال قبيلة أخرى في الحرب.
انتهت “حرب البسوس” بعد أربعين عاما من اشتعالها، و لم يقيد النصر فيها لأحد، بل كان جميع المشاركين فيها مهزومون، و قد توقفت تلك الحرب تلقائيا، حيث لم يعد أحد بعد مرور سنوات طويلة على نشوبها يعلم أسبابها، حتى يشارك فيها، و يجني نتائجها.
تلك الحرب المعيبة، كانت مثالا لمآلات الانتقام الأعمى، و قصر النظر، من جانب سيدة و سيد كان الأجدر بهما الاتصاف بالحكمة، و الكثيرون في عصرنا يدفعهم الانتقام إلى إدخال أممهم في دوامات من الحروب و الفشل، دونما علم بعواقب الأمور، أو دونما إدراك لمخاطر أفعالهم التي يرونها في غاية البساطة، و يبررونها بأبسط المبررات.