في زمن التباهي بصدق المشاعر، كان المحبون يقسمون على أنهم الأكثر حُباً دون شركائهم في المحبة؛ فكل يعرف كيف يقول ذلك وبطريقته الخاصة، ولأن الناس وقتها لم يختبروا تعقيد المشاعر ولا يعرفون ليها (التنظير) كانوا يعيشون الحب بكل تغلباته (وصلاً وفِراق)…
كنت في كل مرة أقف متأملاً على مقدرة المحبين على الفناء في هوى المحبوب رغم ما يلاقون من آلامٍ وجراح؛ ولكن ذلك لا يثنيهم عن الخوض في محبتهم والغوص أكثر عمقاً حتى يتلاشى أحدهم في الآخر فتجده يهتف لوحده:
” وأصبحنا رغم البين..
روح واحدة في جسدين.. “
الأمر ليس تنافساً مع المحبوب ولا مع أحد، و لكنها الروح العاشقة، فتحد أحدهم كلما زاده حبيبه في الجراح؛ كلما تعمّق في محبته أكثر وكأنه يتمثل قول مُحِب آخر:
” كالفراشاتِ على نار الهوى..
جئنا إليها.. وأحترقنا.. “
في لحظة صفاء عميق، صدح شاعرٌ بأحاسيسه وقال رغم (قيود المجتمع) آنذاك على صوت أعذب مغنٍ حينها:
” أحبك بحبك..
ما لا نهاية…“
ليس الأمر في التعبير الصريح الصارخ بالحب؛ و لا بكونه جاء في زمنٍ يعتبر فيه التعبير هكذا خرقاً للحياء ولكنه جاء تحدياً (للتعبير) نفسه بحيث كلما تصورت (حجم الحب) وضعه لك في عبارة (ما لا نهاية) ليبقى ليك الحب أكثر من كل التصورات التي تقفز إلى مخيلتك…
وبذلك يتسيد على عرش المحبين الذين وهبوا عاطفتهم للحب، وتخطى السائرين على درب الأحاسيس المرهقة والعاطفة المستفيضة…
وفي التعبير عن المشاعر فنون، ولكن سودانوية (الأحاسيس) تجعل للحب تعابير آخرى ليس الكلام أولها، فالتربية جعلت من الإفصاح عن الحب صراحة شئ من الجرأة التي لا يتعداها الإنسان؛ بيد أن أحدهم تمر على كل هذه القوانين والتقاليد ليخرج من صمته مغنياً:
” لو أحبك عمري كلوو..
برضو شاعر ما كفاني…“
بهذه البساطة يضع مشاعره كلها أمام ناظري المحبوب، بل ويرهن ما تبقى من تعابير للحب على قارعة الحبيب، ليتمنى لو أن يفعل المزيد، فهو يشعر بأن هذا العمر لا يكفيه ليحب حبيبه…
وبذا يكون قد قدم تعبيراً في الحب لم يسبقه إليه عاشق من الذين تسيدوا ساحات الشعر نظماً وغناء، وقبل أن يكتمل للمعنى تعبير وضع مساحة أن يكون هناك نقص فترك له تعبير إضافي (ما كفاني)..
لتستوعب كل الساقط من المشاعر المحتملة…
في غمرة إنشغال الأحبة بالبوح عن مكنون مشاعرهم؛ خرج إلينا أبوعركي البخيت شاهراً قلبه المحمّل بالتعابير صادحاً:
”بحبك حب…
ما حباهو جن لي جن..
و لا حباهو زول لبشر..“
ليدلل على أن الأمر قد تخطى كل مقدرة البشر على المجئ بمشاعر توازي آحاسيسه؛ تخطى الجنس البشري بأكمله وتحدى عالم الجن بأن مَن فيهم إذا كان يحمل حُباً يوازي شعوره، وللجميع الحق في الإعتقاد تجاه مشاعرهم و التباهي بصدقها…
من بين الذين أغرقوا محبينهم بالمشاعر كان (هلاوي) يسوق المعاني كيفما إتفق شعوره وهي تنقاد طائعة وكأنها شئٌ لا يعرف الإفلات فجاء بما يدهش السامع والقارئ معبِّرا:
”أنا يا غرامي وصلت بيك
في الدنيا لي حد الغرام“
ليس مثل هذا تحدي؛ فالذين قالوا بأنهم الأصدق و الأوفر حظاً من الحب من بين أقرانهم المحبين، ومن بين أمثالهم من البشر لم يفكروا يوماً بأن للحب حدود يمكن أن يصل إليها بشر حتى جاء (هلاوي) من هناك و قال لحبيبه بأن وصل إلي المرحلة الأخيرة..
قد فاز هلاوي بالتعبير حين قال (حد الغرام) فمَن قال قبله او مثله أنه قد وصل بحبيبه إلى حيث النهايات، لم يترك الأمر مفتوحاً ليعجز الحبيب و العزال و المتفرجين بل أنهى ذلك بيقين بأنه قد وصل بنفسه وحبيبه إلى آخر المراحل…
ولكن الزمان يدور….
والناس في الحب أنواعٌ شتى..
وكل له طريقته في التعبير و الكلام والنظم…
من بين كل هولاء خرج علينا (علي شبيكة) متوشحاً آحاسيسه الفياضة وحاملاً رقة قلبه يقول:
”قلبي اتولد يحمل هواك..
خفقة هنا.. وخفقات معاك“
ما إن سمعتها وقرأتها حتى خرجت أهتف في سري مثل أرخميدس:
- فاز علي شبيكة.. فاز علي شبيكة.
أعيدو قراءتها أو سماعها إن شئتم:
”قلبي اتولد يحمل هواك..
خفقة هنا.. وخفقات معاك“
وهل هناك حبٌ كحب الفِطرة.. ؟؟!!
بالفطرة خُلق يحمل هواها.. ؟؟!!
لم أستوعب فكرة أن يولد (قلب) يحمل حب شخص.. !!
لم يستدرج في محبته، ولم يختطفخ الحب، فهو قد جاء إلى الدنيا حاملاً حبه…
حين تنافس المحبون..
فاز علي شبيكة…
لم يكتف شاعرنا بهذا التعبير المذهل عن المشاعر و المقنع، بل دلل على محبته بقولٍ آخر…
” خفقة هنا…
وخفقات معاك.. “
ولأن القلب (مولود) بمحبة المحبوب لم يكن في يخفق في قلبه هو فقط، وإنما كان الخفق مقسماً هنا وهناك، ولنكن أصدق؛ كان الخفقان الأكبر هنا (لدى المحبوب) فخفقة هنا وخفقات مع الحبيب…
نزار عبدالله بشير
مارس 2024