شبكة الراهن الاخبارية

(الكمبو) ومفردات أخرى في قاموس الزراعة في السودان

كتب: محمد عباس الباشا.

هناك في القصي من بقاع النيل الأزرق أو جنوب كردفان أو القضارف، لم يكن (التاجر) دوما هو ذلك الشخص المشتغل بالبيع و الشراء في الأسواق؛ فقد حمل الاسم دلالة أخرى يعرفها العمال؛ و هم الفئة من الفلاحين الذين يقومون بالعمليات الزراعية نيابة عن (التاجر).
(التاجر) في عرفهم هو الممول و صاحب المشروع، و هو المعروف في نواح أخرى بالمزارع، و هم في ذلك محقون، فهو من ناحية يتاجر مع الله بزكاة محاصيله، و من ناحية أخرى يتاجر بتوكله على الله سبحانه و تعالى، و له في ذلك تاج من التوكل يعلمه ممارسو الزراعة المطرية، الذين يبذرون الأرض مالا و جهدا برجاء أن تنزل الأمطار دونما كثافة أو (صبنة)؛ أي (قلة)، و (الصبنة) هي الفترة التي تفرض فيها السماء الصيام على الأرض و تمنعها عن تلقي الأمطار في فصل الخريف.
كبار (التجار) لا يسكنون القرى، و ذاك هو حالهم في ربوع السودان التي يعمل أهلها بالزراعة المطرية، لكنهم يسكنون بأفئدتهم ربوعا يحييها الخريف بعد موات بنبات يمتد بساطا ما امتد البصر، بعد أن تكون غائرات الشقوق قد أغلقت أفواهها العطشى، و غادرها إلى أعالي الأشجار (أبا درق) و (الوشاش) و (البرل)، و غير تلك من أنواع الثعابين و الحيات التي تملأ تلك النواحي، لكن (التاجر) الذي يسكن المدينة و يزور مشروعه الزراعي بين فترة و أخرى يستخلف رجلا يقوم مقامه في (الكمبو)، يعرف في عرف تلك المناطق ب (الوكيل)، و ما أدراك ما هو.
قائمة طويلة و مهمة من الأعمال و المهام يؤديها (الوكيل) في المشروع الزراعي؛ فهو الذي ينوب عن (التاجر) في كل شيء يخص المشروع، فيتسلم المواد البترولية و التموينية منذ وقت مبكر من الموسم، و يقوم بصيانة (الكمبو) الذي يكون مهجورا لشهور عدة بعد انقضاء الموسم السابق، و القيام بعمليات تأسيس المحاصيل الزراعية باستعمال عدد من سائقي الجرارات الزراعية و مساعديهم (الزياتين)، و الاتفاق مع العمال في المراحل التالية من عمر المحصول، و جلبهم للكمبو و الإشراف على عملهم و (محاسبتهم) أي نقدهم أجورهم بعد استلام ( القوالات)، و مفردها (قوال) من (مقاولة)؛ و هي الاتفاقية الشفهية بين (الوكيل) و مجموعات العمال الصغيرة، سواء كانت تعمل في تنقية المزروعات من الحشائش( الكديب) أو (قطع العيش) أو (قطع السمسم) في وقت الحصاد.
محور تلك الحركة الدؤوبة على مدى أشهر الخريف تكون (الكمبو)، المكون من مجموعة أكواخ مبنية من القش (قطاطي) يسكن داخلها العاملون بالمشروع.
يتم اختيار موقع بناء (الكمبو) على أسس متعددة، منها أن لا يكون في (ميعه) و هي مكان تجمع الماء خريفا، و أن يكون في موضع وسط، بحيث يسهل الوصول إليه في زمن مناسب من كافة اتجاهات المشروع الزراعي، سواء لغرض جلب حاجة أو إسعاف مريض، و ذاك الأساس يجاذبه في الأهمية أساس آخر؛ و هو أن يكون موضع (الكمبو) بحيث يسهل الوصول إليه من الشارع الرئيس لتسهيل جلب المياه إن لم يكن هناك (حفير)، و جلب المؤن (المواد) بالتراكتور أو سيارة الدفع الرباعي ال (لاندروفر) الانجليزية، أو ال ( لاندكروزور) اليابانية، حينما يشتد هطول الأمطار و تغدو الأرض الطينية موحلة.
يستريح العمال و يتناولون وجباتهم خلال ذروة النهار في وقت الحصاد تحت ظل (التاية) قريبا من موضع (القوال)؛ و هي شجرة أو (راكوبة) يكون بها مكان صنع الطعام و مواد صناعته التي تم جلبها من (الكمبو) كدقيق (الفتريتة) و (الويكة) و السمك المجفف (الكجيك) الذي يجلب في شكل ) بالات من مناطق الدمازين و الروصيرص على النيل الازرق، بجانب ( برميل) مياه الشرب.
(الكمبو) في مناطق الزراعة المطرية يختلف عن ذاك الكائن في مناطق الزراعة المروية، لكنه في الموضعين يظل مركزا لكل العمليات الزراعية؛ فهو مأوى العمال و مخزن الجازولين و المواد الغذائية، و المقر الإداري للوكيل، و هو الرمز الزراعي و الاجتماعي الذي لم يفقد أهميته رغم تناقص عدد سكانه بسبب استغناء المزارعين عن كثير من الأيدي العاملة و الاستعاضة عنها بالآلة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.