بقلم: محمد عباس الباشا.
مما أورده القرآنُ الكريمُ في منهجِ التربية، ترتيبُ المواعظِ و ذكرُ العِلَل، ولله سبحانه و تعالى في ذلك حِكمة، فعندما بدأَ لقمانُ في وعظِ ابنِه رتّبَ المواعظَ، و علّلَ المنهياتِ بصورةٍ تقودُ العقلَ للامتثالِ و التسليمِ دون جدالٍ أو تردد.
بدأَ لقمانُ الحكيمُ الوعظَ بالنداء ( يا بُنَي )، وفي ذلك قدرٌ من إظهارِ محبةِ الوالدِ لولدِه، و حرصِهِ على أن يحوزَ خيرَ الدنيا و الآخرة، و هذا النداءُ الاستفتاحيُّ الأبويُّ يُهيئُ نفسَ الابنِ للاستماعِ للوعظِ و النصحِ و الإرشادِ من شخصٍ هو أحرصُ الناسِ عليه.
كانت الموعظةُ الأولى هي النَهْيُ عن الشِرك، ” و إذ قالَ لقمانُ لابنهِ وهو يعظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشرِكْ باللهِ إنَّ الشِركَ لَظُلْمٌ عظيم “، [13 ] لُقمان، ذلك لأنَّ قضيةَ التوحيدِ هي مِفتاحُ الفَلاح، فكلُّ السُّبُلِ إذا جانَبَت التوحيدَ زاغت عن الطريقِ المستقيم، و لا شكَّ أن صاحبَها ضال، فالمُشرِكُ لا يُحدَّثُ عن مكارمِ الأخلاقِ و السُلوكِ القويمِ قبلَ أن يُحدَّثَ عن التوحيد.
و جاءتْ عِلَّةُ هذا النَّهْي حينما قالَ لُقمانُ لابنِهِ ” إنَّ الشِركَ لَظُلْمٌ عظيمُ” ، و كلمة ” الظُّلْم ” وردت في كثيرِ آياتٍ في القرآنِ الكريمِ في سِياقِ ظُلْمِ الإنسانِ لنفسهِ، و من ذلك قولُ اللهِ تعالى في الآيةِ [97] من سورةِ النِّساء: ” إنّ الذينَ تتوفَّاهُمُ الملائكةُ ظالمي أنفُسِهِم…”
و من ذلك يتبيَّنُ لنا أنّ الشِركَ من أعظَمِ دَرَجَاتِ ظُلْمِ النفس، ذلكَ بحِرْمَانِها من نورِ التوحيد، و تقييِدِها بِقُيُودِ الضلال الذي يَملأُ جَنَباتِ حياةِ المُشْرِك، فلا يرجُو لنفسِهِ، و لا يُرجَى منه إلّا أنْ يَهْتَدِي.
و تَدَرَّجَ لُقمانُ بعدَ أنْ أسَّسَ لمواعِظِهِ التاليةِ بالمَوْعِظَةِ الأولى التي تُشَكِّلُ أساساً لكُلِّ ما يأتي، يقولُ القُرآنُ الكريمُ في سِيَاقِ مَواعِظِ لُقمان لابنِهِ ” و وصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوالدَيْهِ حَمَلَتْهُ أمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ في عَامَيْنِ أنِ اشْكُرْ لي و لِوَلِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيِرُ “.
إنّ بِرَّ الوالِدَيْنِ من الفُرُوضِ الإلهيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بأساسِ عَقِيدةِ المسلم، و لا يُمْكِنُ بِأي حالٍ من الأحوالِ الحديثُ عن العَقِيدةِ الإسلاميةِ مالم تَرتبطْ في وَقْتٍ من الأوْقَاتِ بِقَضِيَّة بِرِّ الوالِدَيْن، وَ يُفَسِّرُ ذلكَ وُرُودُها في أكثَرِ من مَوْضِعٍ في القُرآنِ الكريم، هنا أتتْ المَوْعِظَةُ بَعدَ النَّهْيِ عن الشِرْكِ بالله، في ثَوْبِ الوصيَّةِ و الحَث، و كانت عِلَّتُهَا ” حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنَاً على وَهْنٍ و فِصَالُهُ في عامينِ “، تبييناً لأحقيَّةِ الوالِدَيْنِ بهذا البِّر، و أنَّه ليسَ بِمِنْحَةٍ و لا هِبَةٍ تُوهَبُ أوْ تُمْنَعُ أو تُحَد.
و البِرُّ في معْناه مُطْلَقٌ لا حُدُودَ له و لا كيفية ، و تمامُ هذه الآية الكريمة من سُورةِ لُقمان يَعِظُنَا ” و وَصَّيْنَا الإنْسانَ “، بالتسليمِ الكاملِ للوالِدَينِ مُستثْنِياً حالةَ دعْوَتِهِما لنا بالإشْرَاك، حيث لا طاعَةَ لمخلوقٍ في معْصِيَةِ الخالق، ” و إنْ جَاهَداكَ على أنْ تُشْرِكَ بِي ما ليسَ لكَ بهِ عِلْمٌ فلا تُطِعْهُما و صاحِبْهُما في الدُّنيا معروفاً و اتّبِعْ سبيلَ مِنْ أنَابَ إليَّ ثُمَّ إليَّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبِئُكُمْ بِما كُنْتُم تَعْمَلون” [15] لُقمان، و بهذا يَتَوَجَّبُ حُسْنُ مُصاحَبةِ الوالِدَيْنِ في كلِّ الأحوالِ، لا فَكَاكَ من ذلك و لا تسْبِيب.
المَوْعِظَةُ التاليةُ التي وَعَظَ بها لُقمانُ ابنَه كانت الوَافِيَةُ الشاملةُ الكاملةُ التي حَوَتْ مالم تَحْتَويهِ المَوَاعِظُ السابقة، ” يَا بُنَيَّ إنّهَا إنْ تَكُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أوْ فِي السَّمَاواتِ أوْ فِي الأرْضِ يأتِ بِهَا اللهُ إنَّ اللهَ لَطِيِفٌ خبيرٌ”، [16] لُقمان.
و تلكَ المَوْعِظَةُ تَبْنِي عِماداً من أعمدةِ العَقيِدَةِ الصحيحةِ لَدى المُسْلِم بِتَشديِدِهَا على ما وَرَدَ في آيةٍ أخرى، ” إنَّ اللهَ لا يَخْفَى عليهِ شَيْئٌ في الأرْضِ و لا فِي السّماءِ” [5] آل عِمران، بَلْ تَذْكُرُ الآيةُ مع عِلْمِ اللهِ الوَاسِعِ غَيْرِ المَحْدودِ قُدْرَتَهُ على الإتيَانِ بكلِّ شيئٍ مَهْما كَبُرَ أو صَغُرَ أو نَأى أو قَرُبَ أو ظَهَرَ أو اختَفَى، وفي هذا ما يُذَكِّرُ العامِلَ بِانَّ اللهَ رقيبٌ و حَسِيِبٌ و قَدِيِر، إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يعْمَلَ عَامِلٌ عَمَلاً دونَ أنْ يعْلَمَهُ الله، و لا يُمْكِنُ لكائِنٍ أنْ يَعْتَقِدَ اعْتِقَاداً مُضْمَراً دونَ أنْ يَعْلَمَهُ اللهُ سبحانه و تعَالى، و في ذلكَ ما يدْعو للخَوْفِ من اللهِ و الحَياءِ منه حِينَما يَستخفى العبدُ خوْفَ أنْ يراهُ الناسُ على المعْصِيَة.
جَاءت المَوْعِظَةُ التَاليةُ في ثوبِ الأمر: ” يَا بُنَيَّ أقِم الصلاةَ وأْمُرْ بالمَعرُوفِ و انْه عن المُنْكَرِ و اصْبِرْ على ما أصَابَكَ إنَّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور”، و تلك المَوْعِظَةُ اختَلَفَتْ عن سَابِقَاتِهَا لارتِبَاطِهَا بأعمالٍ أسّسَتْ لها المَوَاعِظُ السابقة ؛ كالصلاةِ التي هي عِمَادُ الدِّين، و التي لا تتأتَّى إلَّا لمن آمن و اتقى، و كَذا الأمرُ بالمَعروفِ و النَّهْيُ عَن المُنْكَرِ المُرْتَبِطانِ بالصَّلاحِ و الإصلَاحِ و فيِهِمَا دَرجَةٌ من خِلافةِ الأنبِيَاء.
أمَّا الصَّبْرُ المَوْصوفُ في القُرآنِ الكَريم بِأنَّه مِن عَزْمِ الأُمُور ، فَهو تاجُ التَربيةِ السليمة؛ لِكُمُونِهِ في قَلْبِ العَقِيِدة، و في ذلك يقولُ تعالى: ” و لا يُلَقَّاهَا إلَّا الذينَ صَبَروا….” [35] فُصِّلتْ، و قَولُهُ تعالى: ” إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجْرَهُم بِغيرِ حساب” [10] الزمر؛ فالصَّبْرُ مِفتاحُ الفَوْز، و هو عُنْوَانُ النَّجَاحِ في البَلاء، و ما مِنْ إنسانٍ إلَّا و هو مُبْتَلى و إنْ كانَ رسولاً أو نبيَّا، و في القُرآنِ الكريمِ قَصَصٌ عن ابْتِلاءاتِهم و عِبَرٌ تُتْلَى.
يَحُوزُ الصَّبْرُ هذه المكانَةُ العَظِيِمَةُ لِكَوْنِه مُتَّصِلاً بالتَّسليِمِ بِقَضاءِ اللهِ عَزَّ و جلَّ مهما ثَقُلَ على النَّفْسِ و شَقَّ عليها حَمْلُه، و بِقَدْرِ الصَّبْرِ يكونُ الجَزاء، و على العَكسِ من الصَّبْرِ يكونُ الجَزَعُ الذي يقْتَرِنُ بالتذمُّرِ من القَضاء، فيضيِعُ أجْرُ الصَّبْر، و ما يكونُ للعَبدِ أنْ يَتَذَمَّرَ على قَضاءِ خَالقِهِ و مُوجِدِهِ من العَدَم.
ثُمَّ تَتَدَرَّجُ المَوَاعِظُ إلى مكارمِ الأخلاقِ و تهْذيِبِ السُلُوك، التي مهَّدَت لها المواعِظُ السابقة، : ” و لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَاسِ و لَا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور [18] و اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ و اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِير” [19] لُقمان.
يَتَعَلَّمَ المَرءُ أنْ لا يُعَامِلَ النَّاسَ بِكِبْرٍ و أنفة، و نَتعَلَّمُ من الآيةِ أنَّ الاخْتِيَالَ و الفخْرَ لا يجوزان للعَبد، و أنَّهُمَا يُبْعِدانَه عن محبَّةِ الله، فالتواضُعُ للهِ و لِلناسِ مِن سِمَاتِ الخُلُقِ الكريم، و نَتَعَلَّمُ من الآيَةِ خَفْضَ الصوتِ لِما دون الصِيَاح، والعِلًةُ هُنَا ” إنَّ أنْكَرَ الأصواتِ لَصَوتُ الحَمِيِر”، علَّةٌ فيها مُقابَلةٌ مُنَفِّرَة.
هذه الآياتُ المعْدوداتُ من سورةِ لُقمان تُقَدِّمُ مَنْهَجَاً عِلْمِيَّاً في تربيةِ الأبناءِ و تَهذيِبِ الذوات ِ و الدعْوَةِ إلى الله، و ما عَلِمْنَاهُ مِنْهَا أنْ نَبْدأَ مَوَاعِظَنَا للأبناءِ و غيْرِهِمْ بإظْهَارِ المَحَبَّةِ لِمَن نَعِظْ، كما نَتَعَلَّمُ مِن الآيَاتِ أنْ نُرَتِّبَ المَوَاعِظَ بحيث تُؤسِّسُ كلُّ واحدةٍ أساساً مَنْطِقِيَّاً و عَقْلَانيَّا لِلتي تلِيِهَا.
و نَتَعَلَّمُ كذلك أنْ نُنَوِّعَ من أُسلُوبِ الَوَعْظ ليكونَ بينَ نَهْيٍ و مِثَالٍ و حَثٍ و أمْر، كما نَعْرِفُ أنَّ الوَعْظَ يَفعَلُ أثَرَهُ في النُفُوسِ عندما يَرتَبِطُ بالعِلَّةِ و السَّبَب.
هذا ما عَلِمْناه، و هو ليس بكمَالِ العِلْمِ، غَفَرَ اللهُ ذَلَلَنَا و علَّمَنَا ما لم نعْلَم.