شبكة الراهن الاخبارية

قانون جريشام المطبق في مناطق الحرب في السودان

  • قانون جريشام المُطبق في مناطق الحرب بالسودان ومتطلبات الإصلاح المالي والاقتصادي في المرحلة القادمة
    ………………………………………………

أولاً: مدخل إلى الموضوع:
كمية العملة المحلية المطروحة للتداول في أي دولة هي مسألة دقيقة جداً، إذ أنها يجب أن تتناسب مع حجم اقتصاد الدولة، فالعملة التي يتم ضخها يجب أن تكون محسوبة بعناية، فلا تزيد عن الحاجة ولا تنقص.
زيادة العملة عما يُفترض أن تكون عليه تنتج عنه أمراض اقتصادية خطيرة، لأنَّ زيادة كمية العملة في أيدي الناس تؤدي إلى زيادة الشراء، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار لأنَّ الطلب يفوق العرض، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف القوة الشرائية للعملة.
ونقصان العملة عما يُقترض أن تكون عليه تنتج عنه أمراض اقتصادية أخرى، فنقصان كمية العملة في أيدي الناس يودِّي إلى عدم القدرة على الشراء، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض الأسعار، الأمر الذي يؤدي إلى نقص الإنتاج.
إذن، فإذا زادت كمية العملة في أيدي الناس نقع في فخ الغلاء، وإذا نقصت نقع في فخ عدم انتاج السلع. وبالتالي، فعلى الدولة أن تكون عندها مقاييس دقيقة للعملة التي تضخها في السوق عبر جهازها المصرفي، الذي هو الجهاز الأول والأساسي لضخ العملة في السوق.
ثانياً: بعض أسباب زيادة ونقصان العملة المتداولة رغم تنفيذ الدولة للسياسات المالية الصحيحة:
من أين تأتي مشكلة زيادة العملة التي في أيدي الناس إذن في أرض الواقع رغم حرص الدولة ورغم تنفيذها للسياسات المالية الصحيحة؟ تأتي هذه المشكلة ـ مثلاً ـ عندما تتم طباعة عملة مزورة بكميات كبيرة وإدخالها إلى السوق في غفلة عن رقابة الجهات المختصة، أو عندما تتم طباعة عملة حقيقية ــ ليست مزورة ــ من جهةٍ ما ـ نافذة ـ دون علم الجهة المختصة برصد العملة وطباعتها، بكميات كبيرة أيضاً وإدخالها إلى السوق.
ومن أين تأتي مشكلة نقصان العملة التي في أيدي الناس في أرض الواقع رغم حرص الدولة ورغم تنفيذها للسياسات المالية الصحيحة؟ تأتي هذه المشكلة ـ مثلاً ـ عندما يحتكر تجار معينون العملة ـ بقصد أو بدون قصد ـ مما يؤدي إلى ندرتها أو اختفائها، أو عندما تعيق ظروف طبيعية قاهرة أو ظروف حرب وصول النقد ـ المرتبات مثلاً ـ إلى منطقة أو مناطق معينة.
ثالثاً: قانون جريشام:
قانون جريشام هو عبارة اقتصادية مشهورة للمستشار المالي لملكة انجلترا السير توماس جريشام في القرن السادس عشر يقول فيها: (النقود الرخيصة تطرد النقود الغالية من السوق) أو (النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق).
ونشرح ذلك بمثال أنَّ الدولة إذا أرادت أن تطرح عملات فضية ـ مثلاً ـ لدعم عملتها الورقية، فإنَّ العملات الورقية ستطرد العملات الفضية من السوق، لأنَّ المواطنين سيخزنون العملات الفضية ويتداولون العملات الورقية من واقع أنَّ معدن الفضة نفسه المستخدم في العملة الجديدة أعلى قيمةً منه كعملة. وكذلك إذا تمَّ تداول الدولار مع العملة المحلية التي قيمتها أقل من الدولار فإنَّ المواطنين سيخزنون الدولار ويتداولون العملة المحلية.
رابعاً: قانون جريشام يُطبق في مناطق الحرب بالسودان:
شهدت الأيام الأخيرة انتشار واسع للعملة السودانية المزيفة ـ المزورة ـ في مناطق الحرب بالسودان، الأمر الذي أدَّى إلى أنَّ المواطنين صاروا يخزنون العملة الحقيقية ويتداولون العملة المزورة في السوق بدلاً منها، وهذا تطبيق صريح لقانون جريشام.
هذا السلوك يُعدُّ إشارةً جديدة مؤلمة إلى واقعنا الاقتصادي المتدهور للغاية، فعملتنا على انخفاض قيمتها صارت تُعتبر هي العملة الغالية الجيدة أمام العملة المزورة ـ ليس العملة الرخيصة أو الرديئة بل المزورة ـ التي لا تساوي شيئاً.
أي نحن الآن في مناطق الحرب نُقيِّم عملتنا بنسبة (الشيء) إلى (اللاشئ)، وليس بنسبة الذهب أو الفضة أو الدولار إلى عملتنا الورقية، وأعتقد أنَّ هذه حالة مريرة ومحزنة وفريدة من الحالات التي يمكن أن تذكر عند تقديم أمثلة ميدانية على تطبيقات قانون جريشام في أرض الواقع.
خامساً: متطلبات الإصلاح المالي والاقتصادي في المرحلة القادمة:
التعرف على طبيعة المشكلة هو الذي يتولد منه الحل. إذن، الدولة في أي مرحلة إصلاح مالي اقتصادي قادمة عليها أن تبدأ بتغيير عملتها بالكامل، وعليها أن تعمل على ضبط كمية العملة المتداولة.
عليها أولاً أن تضخ عملتها الجديدة ـ ذات المواصفات عالية الجودة والتي لا يمكن تزويرها ـ وفي نفس الوقت تعمل على سحب العملة القديمة من السوق، وذلك لإعادة سيطرتها على العملة الوطنية مرَّة أخرى. وعليها ثانياً أن تتبع السياسات اللازمة لتقليل كمية العملات المتداولة بما يتناسب مع حجم اقتصاد الدولة الجديد.
طباعة عملة جديدة بمواصفات عالية هو بالطبع أمر مكلف جداً، لذا فالسودان يحتاج إلى داعمين اقتصاديين حقيقيين وأقوياء له في المرحلة القادمة، وهذا الأمر يمكن توفيره إما بتلقي مساعدات مالية من المجتمع الدولي أو بعقد شراكات تجارية مع دول ذات اقتصاد قوي تراعي المصالح المشتركة، ولفترة طويلة الأمد.

د. فائز أحمد علي.
عُمان / مسقط
الثلاثاء 4 يونيو 2024م

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.