” لك وجاهة التاريخ حبيبي و الأدب، و كرسي شاغر في قلبي ينتظر مجيئك “
- واسيني
تلك الكلمات كانت نهاية خطاب إحدى شخصيات رواية أنثى السراب لواسيني الأعرج، يا لكثافة الشعور في هذه الكلمات، أي مفردات هذه التي تحمّلت كل هدا العبء لتوصل شعور كالذي أوصلته..؟
أعيدوا قراءة المقطع مجدداً و توقفوا عند:
” و كرسي شاغر في قلبي ينتظر مجيئك.. “
كيف حوّل الإنتظار المميت إلى مشهدٍ سينمائي ممتع، و قصيدةٍ من شطرٍ واحد لتضج بكل تلك المعاني..
الإنتظار الذي يقتل المرح، و يجعل من الثواني سنوات ضوئية ثقيلة على النفس، ذلك الشبح الذي يطارد كل المحبين الذين فرّقت بينهم سُبُل الحياة..
الإنتظار الذي يجعل المرأة تطلب الطلاق من زوجها إن طال سفره أو سجنه، الذي يمنح الموت في الذاكرة للذين طال غيابهم؛ كيف تحول إلى متعة يمارسها شخص يمنح قلبه كمقعد واحد فاخر محجوز مُسبقاً و للأبد لشخصٍ واحد.
كل الذين كانوا يبحثون عن الصدق في اللغة وجدوه في المفردات التي تحمل مشاعر النساء؛ لأنهن الأوفر حظاً في صدق الشعور، فكان نزار قباني حين يدوزن الأبيات على لسان أنثى تشعر و كأن القلم كان بيد أشعر النساء في التاريخ، فيحتال الكُتّاب لإستعارة أحساسيس النساء لتدوين جُملة تُعبِّر عن شعورِ إمرأةٍ مُحِبة في روايةٍ أو مقالٍ ما…
و كرسي شاغر في قلبي ينتظر مجيئك..
التسامي في هذه الجملة لم يكن الوفاء الذي حملته (الحبيبة) لحبيبها بإنتظارها له كل تلك الأزمان، التي و إن قَصُرَت فهي طويلة بعمر الحُب، و لكن في إختزال ألم الإنتظار في إيقاد الشوق ليستديم، و لكي لا يكون الإنتظار جحيماً تحول من القلب ( مكمن الشعور) إلى جمادٍ لا يشعر (كرسي) ليكون الإنتظار مقبولاً و إن كان للأبد.
المحبون لهم لغتهم التي لا تشبه لغة العامة و إن إشتركت معها في المفردات، لغة حسّاسة للتعابير، فلا يمر بها ما يمر على كل الناس، فالشوق فيها ليس كلمة من خمسة أحرف و لكنها لغة قائمة بذاتها مشتقة من اللغة الأم؛ لغة يعرِفها المحبون و يُعرِّفها عشاقها بأنها مخزن لمردافات لم تتوفر في قواميسٍ بديلة، فيختبئ فيه اللهفة و الإنتظار و روزنامة التاريخ القادم و دقات القلب و الصبابة و التوق و معانٍ لا تتسع لها مساحات التدوين العادية…
الأمر بسيط على ضخامته، و لكنك لن تراه كذلك حتى تكون داخل حِصن تلك العوالم لترى شئ لم تشاهده من قبلك و كأنك تنظر للعام من خلال (نظارة ثلاثية الأبعاد) فتهوِّل الأشياء العادية، فتصبح دقائق الغياب سنوات من العذاب و الإبتسامة العابرة فيلم سينمائي من ثلاثة ساعات تقضية في أفخم دور السينما، أنت لا ترى كل تلك المشاهِد؛ أنت تعايشها مصدِقاً ما بداخلك، فقط من هم بالخارج ينظرون إليك نظرة المجنون، لذلك أتفهم سلوك الذين إستبد بهم الحب و أفقدهم عقلهم من لدن قيس بن الملوح و حتى آخر الذين هاموا بوجههم في الطرقات..
فسبحان الذي سخّر لنا اللغة لنغسل ما علّق بالروح من معاني و نتنفس بها إذا ضاق الصدر عن الشعور.
المزيد من المشاركات
نزار عبدالله بشير
الخرطوم/ يونيو 2022