عشق المدن عشق محفور و مقدور ، تماما كعشق البشر ، لها في الخاطر شذرات وفي الوجدان لذات ، وفي الدواخل زفرات ، وفي الحياة ذكرى وذكريات ، ولها ذكاء يرد الروح ويجعلك تحلق في مساحات روحية وفكرية لا أفق لها وتثير لكوامن الأشواق و سوالف العشاق ما يفيض عن الوعاء والمتون.
لكم عشقنا – كغيرنا – مدنا احتوتنا بمحيطها وأحوالها وأناسها ، وأسرتنا بطيبها وطيبتها فأشرقت فينا وفي دواخلنا معنى و مغنى ، حتى صارت لنا مدنا في الذاكرة وحياة أخرى في الخاطرة .
فمن تلك البقاع الوريفة تقبع مدينة ود مدني وتظل للكثيرين -وأنا منهم- أغلى وأحلى حتى من مسقط رأسهم ، وهذه حكمة إلهية كما أعتقد وسنة من سنن الحياة أن تتعلق بمكان ما لمجرد هوى في نفسك صادفها هناك أو لأي سبب دنيوي أو أخروي لا ندري فالله اعلم ، لا سيما ونحن من أقاليم الشمال وربما الاشتراك في نفس الخصال وذات الطباع ، كيف لا وكثير من إنسان الشمال نزح إلى هناك منذ عشرات السنين وأقام فيها ولا يزال وبذر فيها بجانب الزروع خصاله وثقافته وطيبته وطينته وبذورته ، ولم يصرفه عن ذلك تغير الجغرافيا ولا اختلاف الديمغرافية الذين لا يمنعان الاشتراك في الخصال والطباع لأنهما من منابع السلوك وفكر الإنسان وطبيعة العقل والوجدان.
فهناك على الدوام (سر إلهي) وسحر رباني يرتبط بالمواقع ، يدخله الله فيها وفي خلقه – ضعيفها و قويها – كي يظل ناقوسا يضرب في ذاكرتنا لنتذكر عظم قدرته وجليل مقدرته ، حتى نسوح وجدانيا وفكريا و إن لم يكن جماليا في ذلك الألق العرفاني المرتبط بالروح ، فالأرواح هي التي تعشق قبل البدن ، وما الروح إلا أجناد مجندة .
الصدفة وحدها قادتني أول مرة لزيارتها برفقة صديق لي بالحي لزيارة أقربائه لأمه هناك بضواحي المدينة بالقرب من قرية الحاج عبد الله على الرغم من مشاهدتي لها من على البعد تكرارا من خلال عبوري بالخط البري القومي المتجه شرقا من قبل ، ولكن مسألة الدخول إليها ومعايشة الحياة فيها فهو أمر آخر أشد دهشة وأرق حالا من المرور من حولها .
فمدني الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود ، تفقد حيالها الإحساس بالزمان والمكان -أو هكذا حالي- أصفه عندما أعانق ترابها وأتنسم أجوائها وأسالم إنسانها وادأتذوق طعامها وأرشف الماء فيها ، فالنيل عندها غير و ضفافه غير و لونه غير وطعمه غير و رماله غير ، وعندها فلا غرو ولا ضير .
فمدني أمسياتها ملاح و فضاء بقاعها فساح و فضال أهلها وشاح لعطره افتضاح ، فكيف لا فشيم أهلها السماح . وحياتهم بهية ظريفة وظلالهم وريقة وريفة ونيلهم أزرق عذب فرات و أغنياتهم تفيض رقة وطروبة وأشعارهم تضج بالجمال والعذوبة ،
وكل ذلك لأن نفوسهم على المحبة مسحولة وعلى الفطرة السوية مجبولة ، إنسانها وفي و راقي ونساؤها في قامة السواقي وأطفالها جمالهم خرافي. أما الحبيب هناك فتجده:
في طبعه دايما صافي ..
وفي أصله ديمة موافي ..
وفي حبه دايما وافي ..
وحنينو واصل وكافي ..
وكيف لا و ود مدني قد حباها الله بذلك الولف (وما بنختلف) وقد درستنا مدني قانون هواها وكتبناه بأرواحنا (حرف حرف) ..
و لكم كنا نتعذر بالمبيت في مدني أو (غشوة) مدني وإن طال بنا السفر ..
و اه من مدني و ود مدني وناس مدني ..
و روحي ليه مشتهية ود مدني ..
لله في لله.
صلاح محمد طه
كارولاينا الشمالية/ الولايات المتحدة.
أغسطس 2024.