نزار عبدالله بشير
أتصور أن شيخاً كبير في السِن يصيغ الوصايا لإبنه؛ ليسهل عليه الحياة، ويختصر عليه الوقت، فيقول ببساطة لا تخلو مِن بلاغة:
« قلت ليك العليك أداربو..
لا تنغش..
لا تراضوا، لا تنغش.. »
ولكن ما قبلها يشرح كيف تكون هذه الوصايا، فالواضح أنها رسالة مليئة بالشجن والحسرة؛ حيث إبتدرها بالشوق كعادة كل الرسائل التي كانت تئن من وطأة الحنين بها فيصدح:
« الشوق بحر..
يا ولدي بحراً تِيه.. »
ولأن الشوق سيّد العواطف، فليكن الحديث حديث شوق.. !!
الشوق الذي يتمدد الآن بلا رادع، فيصحوا كلما عبرت صورة أحد الأحبة ولو خطفاً، يهيّج الذكرى فتنزف العيون دمعاً ما كان له أن يكون لو لا الشوق.. !!
الشوق الممتد على نواصي القلب خفقاً مستديماً، يتربع على إمتداد العمر، لرفاق العُمر الذين تفرقت بيننا وبينهم السُبل، فلا لقاء يبدد وحشة المسافة، وعناق يداوي رعشة الأيادي الفارغة..
الشوق لكل الأزقة، جلسات السمر والقهوة، حكاياتهم الساخرة، ضحكاتهم بلا أسباب تدعو للضحك وتعليقاتهم على كل شئ وصمتهم المخيف في حضرة أحزانك.. !!
الشوق بحر.. !!
ولكن ماذا بعد.. ؟
تحذير وتنبيه شديد اللهجة مخافة الغفلة وأن تسقط مغشياً عليك في لحظات الفزع فيقول بلهجة واضحة ناصحاً ومُحِب:
« عليك الدور..
وتصريف الليالي بدور..
تشيل ما شِلنا مِن الهَم.. »
لا يخطر ببالك سوى (والدك) وهو يكيل ليك الوصايا مخافة أن لا تقاوم مصائب الحياة القادمة، وأن تمتلئ بالثبات حين يأتي الدور عليك وتقتحمك الهموم، وكأنها دائرة ستدور على الجميع.. !!
ولكن قدال كان سودانياً..
قابلته للمرة الأولى في منتدى دال الثقافي، الذين كان يشرِف عليه، إستقبلنا باسماً تزينه جابيته ناصعة البياض كقلبه، وعمامته تقبع بفخر على رأسه، ويتزأياً صديرياً أسود اللون بُحلي رمادي عند الأطراف.. !!
كان سودانياً جداً..
يشبه إنسان الجزيرة بكرمه الفياض، وببساطة تُشعرَك بأنه صديقه منذ عشرات السنوات، لا أنك تقابله للمرة الأولى في حياتك.. !!
كان كريماً، يحرص على أن يخرج ضيوفه راضين، مرتاحين، تبادل القفشات والضحكات معنا، فلم استغرب مفرداته التي قرأتها وسمعتها قبل سنوات قبل لقاءه، فكنت كلما سمعت شيئاً من أغنياته تصورته يقولها بصوت تخالطه بحة خفيفة:
« وأبقى العاتي زي سُنطتنا..
وزي صبراً..
نلوك فوق مُرُّو زي الزاد.. »
الشوق بحر.. !!
حين يقفز أنور بأداءه الأوبرالي مستعرضاً إمكانيات صوته المهولة، ويذهب بعيداً في التطريب، بينما فرقة عقد الجلاد بأكملها تهمهم في الأسفل في تمازج غريب مع الموسيقى، يجعلك مذهولاً من هذا التناغم في الآداء.
وحين يُظهِر شَمَّت إمكانياته الموسيقية والآدائية، فينسحِب من سِرب الفِرقة التي تؤدي في مستوى واحد، ويقفز باللحن لأعلى، حتى لتشعر كأنك تُحَلِّق معه بجناحين لا تستمع للحن.. !
أو حين يطلق شريف العَنان لقدرته على التطريب، ومن خلفه الفرقة تتبارى مع الأوركسترا الموسيقية يحفون صوته، كمن يحرسون كنزاً مِن الضياع، تتكامل اللوحة اللحنية في مَسمعك وأنت في عالمٍ لا تعرف متى دخلته بالضبط.
الشوق بحر.. !!
الجملة التي لَم تجد موازياً لغوياً في التعابير العاطفية، سوى في الخطابات الغرامية القديمة، حين كانوا يذيلونها في إنتظار رد المحبوب فيكون المُكَمِّل:
” والدموع مطر.. “
ولأن الشوق غلّاب، فالبكاء قرين الشوق حين يتمدد ويتخطى مقدرة القلب على التحمُل، فلا بُد مِما لا بُد منه؛ فينهمر شلال الدموع..
الشوق بَحر.. !!
أتصوره بحراً بلا سواحل، بلا شواطئ، ولا أرصفة تنتظر المسافرين على مِتنه؛ فالغرق مصير الأغلبية منهم، ولا موانئ تحتضن وحشة العالقين..
الشوق بحر.. !!
وحشة منقطعة النظير، شديدة القسوة، كتلك التي قال عنها سيف الدسوقي:
” وحشة ما بتعرف رسائل”
وحشة لا يبددها ألف عِناق، لا ينهيها مليون لقاء.. !!
الشوق بحر.. !!
شعورٌ يشبه بأن تملأ ناظريك من ملامح محبوبك وهو يضحك ملء راحته؛ وتشعر بأنه بعيد عنك، رغم أن المسافة صفرية بينكم..
الشوق بحر.. !!
اللقاءات معدومة، والرسائل تلهب الشعور أكثر..
والليل يعمل كفتيل قابل للإشتعال وكلما مر الوقت، يمضي تصاعدياً ويفيض كالقاش في موسم التساب.. !!
الشوق بحر.. !!
للآيادي التي ضمتها آيدينا في لحظات الخوف، للأكتاف التي إمتدت في لحظات التعب، والصدور المفتوحة للعناق، للسلام الذي بددته الحرب، والمنازل التي أكلت الصراعات أمانها، وللأحبة التي أجبرتهم الحياة أن يصبحوا أكثر قسوة ..!!
و ..عليك تصريف الليالي بدور
نزار عبدالله بشير
ديسمبر 2024