بقلم: بروفيسور عوض إبراهيم عوض
خرجت من ديار أهلي في زمانٍ أخضر القسمات، يانع الملامح، جميل المحيا، رحيم السجايا، رفيقٍ بالإنسان أينما كان، وتوجهت صوب المجهول. لم أكن أدري ما تخبؤه الأقدار أو تحمله عاديات الزمان. كانت الحياةُ طموحاً أزلياً لا يُجارى. والأمل يملأ الجوانح من كل الزوايا. والقاسم المشترك بينهما أن القادم أحلى لا محالة. لم أسأل نفسي عما تخبؤه الأقدار في الزمان الآتي. كل الذي أدريه أنني كنت طموحاً أكثر من اللازم، وعاشقاً للجديد أكثر من اللازم، وقلقاً أكثر من اللازم. كانت المسافات بيني وبين المجهول قصيرة قصيرة لا تقاسُ بالكيلومترات. نفحتني شقيقتي الكبرى مبلغ خمسة جنيهات هي كل ما استطاعت أن تدخره كي تساعدني به في مسيرة الأيام القادمات وأنا أبدأ رحلة الخروج من مدينتي الصغيرة لألج أبواب الحياة الواسعة. حملت ذلك الزاد الوفير في زمانه وتوجهت صوب العاصمة. لا أقول الخرطوم، وإنما أقول العاصمة بكل صخبها وضجيجها، وسهر لياليها الذي لا ينتهي. العاصمة بأم درمانها، وبحريها، وسجانتها، ورفيرتها، وقصرها الجمهوري، وحدائق موردتها، وسكك حديدها، وسوقها الأفرنجي، وغيرها من المعالم التي بهرت كل قادم من الريف بروعتها وألوانها الزاهيات كلما ولجها صبي في عنفوان البراءة وجماليات مقتبل الشباب. استقبلتني بأريحيتها، وجمال ملامحها الغجريةً التي لم تخلُ من بهرجةٍ ونرجسيةً في هندامها. كانت أسطورية الملامح، بابليةً الألوان، حاتميةً الكرم، وباريسية المساء. ورويداً رويداً وجدت نفسي واحداً من أبنائها المدللين في الجامعة وسط كوكبة الأصدقاء، وفي إذاعتها البديعة وسط كوكبة المعجبين الذين لم أدر لماذا تعشقوا هذا الفتى النحيل القادم من تخوم كردفان المتواضعة؟ وشيئاً فشيئاً توارت البساطة التي لازمتني من تراث القرية والبلدة الصغيرة التي نزحت منها بفعل الطموح وعنفوان الأمل الذي أراد أن يثنيني عن الحياة فيها ويدفعني قسراً للانخراط في تخوم العواصم. عشقتني إحدى الفاتنات وعرضت على شخصي الضعيف أن يتزوجها ولا أدري لماذ؟ ولكنني ببساطتي وسذاجتي اعتذرت لها بأني مرتبط بإحدى قريباتي في القرية. كانت تلك أول كذبة مدوية فرضتها عليَّ حياتي الجديدة التي توالت فيها مثل هذه الكذبات لزوم التعايش مع أهل المدينة. ومرت السنوات طويلةً بصخبها المعهود. وكبرت حولي المدينة وازداد اتساعها إلى حد الترهل. وبدلاً من السجانة والهاشماب والموردة وخور أبو عنجة صارت المفردات التي أحاطت بي إحاطة السوار بالمعصم تشمل: لندن، وموسكو، والقاهرة، وإسطمبول، وكوالا لمبور، وواشنطون، وبرلين، ونيودلهي، وكازابلانكا، وكمبالا، والرياض، وأبو ظبي، وبغداد، وطرابلس، وبيروت، وجاكرتا، بل وسرحت حتى بحر الصين الجنوبي. يا الله من هذا العنفوان والصخب الجريء. ما كل هذا الركام؟ وجدل المسافات الطويلة؟ وبرودة طقس المطارات العتيقة؟ ما هذا السخف المتمثل في كثافة إجراءات التفتيش، وتصوير البصمات، وتفتيش الملابس حتى أماكنها الحساسة؟ ما هذا الانتظار الممل على الكراسي المريحة في كثير من الأحيان وغير المريحة في معظم الأحيان؟ ولماذا الساعات تمضي بطيئةً ورتيبة في كل صالات الترانزيت التي لا فكاك منها؟ وفجأةً جالت بخاطري ذكريات فرضت نفسها على الوجدان بلا مقدمات. تذكرت بساطة أهلي في حواري النهود وأزقتها الصغيرة بين القطاطي والحيشان المبنية من حطب الكداد، ومغطاة بقش النال وشوك الكِتِر. بكيت حتى الثمالة وأنا أجتر ذكريات دكان دبوجة، وفولة تاما، ومقرع عبد الله الراعي، ورهد الحسين، وحوش حسكنيت، وغنم ود بقاري، وحمار فاطنة أم كمبوت وهي تمر أمام بيتنا تحمل حزمات الحطب. وتأتيها من وسط البيوت حجة آمنة بت أحمد نور لتسألها كل مرة: (كريمتك بشنو يا فاطنة؟) والمعنى بكم تبيعين حزمة الحطب يا فاطمة؟ فتجيب: (كريمتي بقرشين) وتتذمر حجة آمنة مسنكرةً هذا المبلغ الباهظ لحزمة الحطب، رغم أن فاطمة وإبن بنتها (النور) قد تعبا حتى النخاع في جمع هذا الحطب وربطه بحبل العاشميق القوي ثم رفعاه على ظهر الحمار الجريح وجاءا به من تخوم ود بُخاري ليبيعاه لأهل المدينة ويعودا بدريهمات لا تشفي الغليل. يا الله أكاد أبكي من تذكر تلك الأيام الرائعات المفعمات بالبساطة والسمو. لم تكن فيها تذاكر سفر، ولا بطاقات الهوية، ولا الحجوزات المسبقة عبر وكالات السياحة، ولا التململ في مطارات المدن، ولا ضجيج الأجانب في محطات الوصول. كان الفريك، وأبوانضباية، وفول أبوانقوي، والعنكوليب أسمى أمنياتنا. كانت زخات المطر ودعاش الخريف تهبنا سر الحياة بلا جدال أو ملل. آاااه من تلك الليالي المقمرات على رمال الطريق، وآاااهٍ ثم آاااهٍ من عذابات الحياة التي غلفت أيامنا طول المدى عبر التنقل في مطارات العواصم بين أرتال التداعي والتفاني في تخوم الأمنيات بحثاً عن براحٍ بين أنياب الليوث وعنتريات الديار المستحيلة.