ولكن إسماعيل حسن لم يكن قاسياً.. !!
يحدث في لحظةٍ ما أن يفيض الشعور بإنسان، فتمتلئ قلوب مَن حوله من فيض محبته تلك..
هذا ما حدث مع الشاعر الراحل إسماعيل حسن، كان رقيقاً في تعابيره، بسيطاً، بليغاً للدرجة التي تشعرك أنك أنت القائل لا هو…
يحدث أن يصل الإنسان إلى غاية (الشعور) حيث أقاصي الحب، نهايات العشق، فيُخذَل خُذلاناً عظيماً؛ فيتحول الحب إلى قسوة مستفيضة..
كلما كان الحُب عظيماً؛ كلما كان ردة الفعل أعنف في حالات الفِراق والخذلان والخيبات…
كان أحدهم يغني من أعماق قلبه، بمنتهى العذوبة حتى تنسى أنك تستمع إلى أغنية؛ بل تعيش في داخلها فوصل إلى:
« حلفتك يا قلبي..
الخانك تخونو..
والفايت غرامك..
أوعك يوم تصونو.. »
كانت الموسيقى راقصه، والناس يتمايلون مع الإيقاع يمنة ويُسرى، بينما ينهمك المغنى في الأداء
إتكأ أحدهم على مقعده المتهالك..
ثم نظر إلى السماء وقال وهو يتنهد:
« ولكن إسماعيل حسن لم يكن قاسياً…»
- أي قسوة تلك التي أصابت قلبه تجعله يجزل القَسَم (لقلبه) ليفعل ذات الفعل الذي ألمه؛ وكأنه أراد أن يُذيقه مِن ذات الكأس التي شرب منها…
ثم يردف بوصية أقسى من ذلك:
« والفايت غرامك..
أوعى في يوم تصونو »
- ولكن إسماعيل حسن لم يكن قاسياً…!!
كان إسماعيل حسن فياضاً في مفرداته بالحِس الرقيق، والحب الدافق ولكن ثمة مفردات إكتست القسوة؛ ربما بأسباب لم نعرفها بعد وربما أراد لها (تخفياً) أم تلبس ذلك الثوب…
ليست هذه هي المرة الأولى التي كان فيها إسماعيل حسن قاسياً في تعابيره حيث قال في غيرها:
« إعتذارك مابيفيدك
ودموعك مابتعيدك
العملتو كان بإيدك
انا ما لي ذنب فيه..»
- قطع جاااااااف ستة صفر.
تراكم الخيبات يولد القسوة..
البعاد يعلِّم القسوة..
التجاهل يأتي بالقسوة..
الخذلان يسبب القسوة…
في لحظات أكثر قسوةٍ من غيرها؛ وبعد أن ضاق ذرعاً بالكثير من المشاعر التي إجتاحته قال:
« كان طلعت القمره وجيت
ولوحلفت برب البيت
مابريدك مهما بقيت…»
ليست ثمة تعبير أقسى من ذلك..
فالخيارات كلها مستحيلة..
1- لو طلعت القمرا وجيت.. (مستحيل)
2- لو حلفت برب البيت. (أقسمت بالله)
- النتيجة = ما بريدك مهما بقيت
لا أتوقع أن أحدهم حسم أمر قلبه بهذه القوة..
ولا أتصور محبوباً أعلن نهاية حبه بهذه الطريقة القاسية، والتوبة عن مشاعره أبداً…
ولكن هل هذه الحقيقة.. ؟؟
- هل كان إسماعيل حسن قاسياً، أم أنه تهديد مبطن لما سيحدث في حال تكرر الفعل ذاته من المحبوب في كل مرة…؟؟
لا أتصور أن القسوة في تلك التعابير حقيقة ولكنها مصطنعة ولا حقيقة لها والدليل قوله:
” أنـا الخايـف ذى القشة
أرجـف في مهـاور اللـيـل..
عليك ذاتك أمسكي عليك
عيونك ديل…“
لا أتخيل أن شخص بهذه الرقة يمكن أن يقسى على محبوبه بتلك التعابير التي سلفت…
- ولكن إسماعيل حسن لم يكن قاسياً..!!
كيف تنبع تلك القسوة في المفردات التي نسمعها؛ أليس هو القائل:
« أصلو حبي أقوى..
وأكبر من إرادتي
وأنا حاسس في..
جحيم نارك سعادتي »
مَن يتلذذ بعذابات المحبوب، لا يمكن أن يكون قاسياً؛ ولكن يمكن فهم تلك القسوة في قول ديستويفسكي
« أنت لا تعلم ما معنى أن يعاقب المرء نفسه بترك ما يحب. »
حيث يقسو هنا على نفسه لا على المحبوب..
المعنى أعمق مِن أن يُفهم في إطاره العام…
ولكني لا زلتُ أقف متأملاً في قوله:
« زي ما بكى عينيك..
سهر لي عيونوا..
وأوعى تقولي تاني..
ما بنعيش بدونو…»
منتهى القسوة التي يُراد منها إستشعار العذاب الذي يشعر به الحبيب، حتى يرق المحبوب لحاله وكأن يقول له:
- ضع نفسك مكاني..
هناك إشارات تبيّن أن كل هذه القوة والقسوة مصطنعة وغير حقيقية منها:
« حلفتك تقول لي..
إيه آخرة بُكانا…»
الذي يبكي فهو في أضعف حالاته؛ حيث يلجأ الإنسان للبكاء كوسيلة أخيره للتعبير عن ما يشعر به…
هل مِنكم مَن إنتبه لقوله:
” إيه آخرة بُكانا.. “
- فالرجل يخاطِب قلبه (حلفتك يا قلبي)
إذن فهو يبكي، وقلبه يبكي..
وكأنما جعل مِن قلبه شخصاً آخراً يشاركه البُكاء لا جزا منه يبكي وهو مثل الذي جاء في المُعَلَقة الشهيرة:
- قِفا نبكي..
- من ذكرى حبيبٍ فحوملِ
- فبكي هو، وجعل من قلبه يبكي لتعظيم المُصاب.
فكيف لشخص يبكي وهو وقلبه أن يكون قاسياً..
بل كيف لشخص يبكي قلبه؛ وتعرفون ما بُكاء القلب، أن يكون قاسياً..
إذن أما زلتم تصدقونه وهو يقول:
« حلفتك يا قلبي..
الخانك تخونو…»
تخون مين يا حبيب..؟؟!!
و .. أيه في الحُب لقينا..
غير همو وشجونو.. ؟؟
نزار عبدالله بشير
مايو 2024