كتب: محمد عباس الباشا.
لا يمكن النظر في لوحة الأغنية السودانية الزاهية بكل ما هو جميل من أصوات و ألحان و كلمات دون أن يتوقف المرء عند عنوان رئيس باسم الفنان و الملحن و الشاعر صلاح مصطفى.
و لا يمكن النظر لوجدان السودانيين دونما رؤية آثار إبداعات صلاح مصطفى التي سقت هذا الوجدان طويلا من سلسل الإبداع الذي كان مزيجا رائعا من عدة مناهل مثلها الشعراء الذين تعامل معهم الفنان صلاح مصطفى.
يحسب صلاح مصطفى ضمن فناني الجيل الثاني من رواد مدرسة الموسيقى الوترية في السودان؛ و هي الفترة التي تلت حقيبة الفن.
ولد صلاح مصطفى في الشهداء بأم درمان في عام 1936، و بعد أن أكمل تعليمه في مراحله المختلفة عمل بالاتصالات السلكية و اللاسلكية.
تفتقت مواهب صلاح و بدأت في بث عبيرها البديع، حيث استمع الناس له لأول مرة عبر الإذاعة السودانية عبر برنامج “مع الهواة” ، و خلال الحلقة قدم صلاح مصطفى أغنية من تأليفه هي “أيام الهنا”.
لاقى ظهور صلاح مصطفى في البرنامج ترحيبا كبيرا من جمهور المستمعين، و من ثم خضع صلاح للجان الصوت و إجازة النصوص الصارمة بالإذاعة، التي كانت في ذلك الوقت البوابة الوحيدة للفنانين، و لجانها الضامن الأمين لسلامة الأذواق، و قدم صلاح مصطفى أغنياته “حبيبة غريبة” و “شارع الصبر”.
اختط الفنان المبدع صلاح مصطفى لنفسه مراحل لحنية و أدائية بدأت باللحن الراقص و الإيقاع الطروب، ثم ولج إلى أغنيات كبيرة المعاني عظيمة الألحان، و في كل المراحل كان يعتمد على الكلمة الرصينة و المعبرة عن موضوعات مختلفة، غير أن المسحة المشبعة بالشجن غلبت على أغنياته في الكلمات و الألحان، و لا يمكن إرجاع ذلك لتعامله مع شعراء مشجونين كالشاعر محجوب سراج، فقد هطلت الأشجان من سحائب أغنيات صلاح مصطفى التي تغنى بها لشعراء آخرين.
درر هذا المبدع التي نثرها على كل ناصية و دار تعامل من خلالها مع كوكبة نيرة من الشعراء نذكر منهم محجوب سراج، مصطفى سند، مسعد حنفي، عبد الله النجيب، إسحق الحلنقي، محمود حسين خضر، علي شبيكة، هذا غير الأغنيات التي صاغها شعرا بنفسه مثل “قمرين دنيانا”.
قدم صلاح مصطفى أكثر من ثمانين أغنية للذائقة السودانية من خلال الإذاعة، كل أغنية منها تنافس الأخريات عذوبة و دقة في التعبير و اللحن، منها “غالي الحروف”، “دنيا”، “تغيب يا غالي”، “لمسة”، “بريد الشوق”، “أمرك يا قدر”، “عيش حياتك”، “من الأعماق”، “العش الجميل”، “شارع الصبر”، “حروف للفراشة”، “خصام العيد”.
لم تشابه اغنية أخرى من رصيفاتها، و لم تتكرر في اثنتين منها فكرة لحنية، كما أن استقلالية النص و اللحن و الأداء في كل أغنية جعلت من كل واحدة من حبات عقد الأغنيات لدى صلاح عالما خاصا بأجوائه و عطوره و ذكرياته و زهوره.
و يعلم مستمعو صلاح مصطفى أن لكل أغنية من أغنياته روح خاصة، تقود مشاعر المستمع لأشياء في ذاته عميقة، لا يفيق من أثر تأثيرها حتى بعد انقضاء مدة الأغنية، فنجد أحدنا يرددها، و يعيد الاستماع كما لو كان يستمع إليها لأول مره.
إن التغزل في فرائد صلاح مصطفى لا يزيد في بريقها لمعانا، إنما يلفت الأجيال اللاحقة لتأمل الحياة السودانية، و نفس الأنسان السوداني المبدع و المتمتع بالإبداع قبل أن نلج ما ولجنا.
حصلت أغنيات الفنان صلاح مصطفى على قدر عال من التنفيذ الموسيقي كما هو حال أغاني خمسينات و ستينات القرن الماضي، كما تمتعت بدرجة عالية من جودة التسجيل الإذاعية في تلك الفترة المبكرة، مما ساعد على إيصال التعبير الموسيقي و اللحني بصورة تقارب الكمال، كما بدا في بكائيات آلة الكمان و الأداء التعبيري واسع الطيف للفنان صلاح مصطفى.
ما تأتى للأغنية السودانية في تلك الحقبة لم يتأت بعدها، حيث لم تشخ أغنيات تلك الفترة، كما شاخت و ماتت لجان النصوص، و اختلط الحسن بالقبيح ليبقى بديع ما صنع الأوائل خالدا.
كل التحايا و التقدير للفنان صلاح مصطفى و لجيله و محبيه.
محمد عباس الباشا.
مايو 2024