نزار عبدالله بشير
يُحكى أن إسحاق المَوْصِلي قال : غنيت الرشيد يوماً في عُرض الغناء:
” أضاعوني وأي فتىً أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسداد ثـغـر “
فقال لي: ما كان سبب هذا الشعر حتى قاله العرجي؟
فأخبرته بخبره من أوله إلى أن مات، فرأيته يتغيظ كلما مر منه شيء. فأتبعته بحديث مقتل ابني هشام، فجعل وجهه يسفر وغيظه يسكن. فلما انقضى الحديث، قال لي: يا إسحق! والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحدًا من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجي.
هذه الأبيات التي صاغها العرجي و هو في السجن، خاطرتني في لحظات أكثر ما أحتاج فيها للسلوى؛ تفكرت فيها و أنا أنظر لعمري الذي مَرَّ الكثير منه، و دار بخاطري سؤال عريض:
ما الذي فعلناهُ بطفولتنا؟ أين ذاك الطفل البرئ الذي كُنا نحمله بين جوانحنا؟ كيف أضعناهُ في زحمة هذه السنوات …
مَن يصدق أننا إستيقظنا يوماً ما و وجدنا أنفسنا قد تخطينا كل سِني العُمر النضير، و أننا على حافة المجهول و قد إعترى التصحر منابت شعرنا قبل أن يجتاح عوطفنا، و أننا ما عدنا نُحمَل على محمل الرأفة و اللطافة و العُذر، كيف بددنا مشاعرنا و طفولتنا و أحرقناها من بين أعيننا و ظللنا نراقبها تحترق كمن يدخن سيجارته مستمتعاً بمنظرها و هي تحترق بين أنامله…
لم يخبروننا بأننا سنشيخ هكذا، و بأننا سنظل نلهث منذ شروق الشمس حتى مغيبها وراء شئ سندفع نصف أعمارنا المتبقية لنعرف ماهيته أو نفسر كنهه، ليتهم ألمحوا لنا بأن هناك شبحٌ ينتظر على حافة العشرين يلتهم السنوات حتى إذا إنتبهت له وجدت نفسك و قد تخطيت حاجز الثلاثين و أنت لا تدري بما يدور حولك و كأنك قد كنت في غيبوبة، كيف إستيقظنا بين ليلةٍ و ضحاها على شيخوختنا التي ربما كنا نعتقد أنها بعيدة؛ و ما يدعوا للجنون الصِغار الذين شاخوا و هم يحملون أعمار غضة ربما لم تتجاوز العشرين، يحملون قلوب مَن تجاوز به العمر حاجز السبعين؛ أما أنا فقد إشتعل قلبي شيباً، ربما في عامه التسعين أو يزيد، يعاني من كل شئ؛ بدءاً من التفكير العاطفي و الإفتقاد الزائد و الشعور بالوحشة مروراً بالزهايمر و الحوجة لأن يكون في كنف الذين يحبهم …
ما الذي فقدناه بحق؟ كيف تبدلت الأشياء أمام ناظرينا؟ و نحن الذين كنا حتى الأمس نرسم أحلامنا بسيطة على دفاتر الرسم البيضاء في حصص الرسم، ثم نحولها أحرفاً في حِصة ( التعبير) ربما لنمنحها شرعية التحليق عالياً نحو سماواتها التي يجب أن تكون بها، هل ثمة من يشعر الآن بهذا النزيف الذي يعتمل في الداخل الآن؟ أوصفوا لنا حلوى تُسكت الطفل الذي يبكي الآن في الداخل؟ ما فعلنا به بحق كل شئ…
كيف فقدنا دهشتنا؟ كيف فقدنا بساطتنا؟ بل كيف فقدنا طفولتنا؟ كيف تغير طعم الأشياء؟
لا شئ كما كان؛ ليس جزعاً و لكننا ما عدنا نحتمل المزيد من الجراحات؛ لا مزيد من الخذلان، بنا من الهشاشة ما يكفي لأن نتبعثر بمجرد لمسه واحدة خاطئة…
إصغوا لأصواتنا التي لم تخرج، للكلمات التي لم تسمعوها منا، للكلمات التي نقولها بيننا و بين أنفسنا، للتعابير التي نخبئها عنكم و نعيشها كاملةً مع ذواتنا، لا تصدقوا هذا الذي تروه منا، نحن عكس كل الذي ترونه، هناك في داخلنا طفلٌ يرفض أن يكبر؛ يتمسك بحقه في الدلال، يريد أن يلعب، يريد وطن معافى لا يحمل فيه هم صف الرغيف و لا وسيلة مواصلات..
ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ هل يكفي الدمعات التي نذرفها كل ليلة على الوسادة أم أن الأمر قد تخطى سُلطة الدموع.
نزار عبدالله بشير
الخرطوم 2022