نزار عبدالله بشير
ثمانية مليار شخص في هذا العالم ويزيدون، وثمة الآلاف الذين تمر الأيام ثقيلةً على قلوبهم؛ تتخطفهم ليالي الغربة الكئيبة، وتجرهم المنافي نحو الوحشة جراً، وخواطهم معلّقة في أماكنٍ لم يغبرها النسيان ولو لمحة، عالقين في المنتصف بين أوطانهم ومنافيهم.
واهماً مثل الملايين كنتُ أظن أن الغربة تعني الهجرة لأماكن يحتاج الوصول إليها آلاف الأميال التي تُقطَع طيراناً أو إبحاراً لأيام قد يُخطِئ مَن يحاول عدها؛ فعرفت أن الغربة في الوطن وبين الأقربين أشد مرارةً من أي شعورٍ قد يعانيه غريبٌ بين الغُرباء..
أتصورني هذا العام وأنا أقفُ على حافةِ نهرٍ عظيم، ألوِّح للمسافرين والعائدين، وللجالسين جواري على مقاعد الإنتظار، أتامل هذا العالم الذي يهلث في جنون؛ وكأنه يحاول اللحاق بشئٍ ما، أتصورني نورساً يستطيع التحليق كلما خاطره الرحيل أو السفر، من مكاني هذا أشاهد الكثير من الأحبة الذين أغرتهم الفُرص الزائفة؛ فصورت لهم خيالاتهم أننا أغلال يجب التخلص منها ليغادرو، فإنفلتوا بعنف دون إلتفاتٍ حتى للآيادي التي تلوح لهم بالوداع..
في العام الجديد قررت أن أصادق شتلةً من الريحان، أحنو عليها كل صباح بقطرات الرزاز التي تتساقط على أوراقها لتوقظها من سبات الليل، وأستلف مِن أنفاسها شهيقاً من العطر كلما ضاق صدري، أهديها ضوء الشمس كل يوم من نافذتي الزجاجية الشفافة، وتهديني عطر الريحان كلما قاربتها..
أنظر خلفي الآن، بعد كل هذه السنوات العجاف التي مرَّت؛ فأجد الكثير من الإطارات الفارغة، إطارات كانت مليئة بصور الأحبة، لم يعد سوى الأثر، ظلال رمادية كيئبة، أعود للصور الجماعية فأجدها فارغة من اي محتوى، مجرد ورقة خالية، وكأنهم هجروا حتى الذكرى..
والعام ينقضي تمر معه الكثير من المشاعر المتراكمة، ولحظات الخذلان العظيمة، والحقائب المغادرة نحو البعيد مُحَمَّلة بالكثير من الحكايا التي عاشتها وتعايشت معها، وتنكروا أصحابها لكل لحظة مرت وبقت هي وفية لتلك اللحظات فإحتفظ بالعطر والصور..
يمضون مع الأيام وكأنهم لم يختبروا شعوراً صادقاً في حياتهم، يلهثون وراء متعة الشعور اللحظية، الصداقات الزائفة، الحب العابِر، والزواج قصير الأمد، ليتفاجأوا بأن الحياة لا تُحب اللحظيون؛ تعاقبهم بالوحدة على المدى البعيد؛ فيعيشوا ذات الشعور الذين قذفوه في قلوب الآخرين في خواتيم أعمارهم.
يتساقطون كأوراق الشجر، خفافاً مع أول عاصفة شِدَّة، ويتناسون أن الأيام دولاب، فذات اللحظة التي تغنوا بها، سيبكون فيها ذات يوم، وأن الذي غرس بذور الجفاء لن يحصد ثمار اللقاء ذات يوم، وأن القلب يحفظ وجوه أحبته في الشدة وكأنها صور منحوتة لا خيالات وصور.
ثمة غربة مريرة، كيئبة لا يبدد شعورها لقاء عابر، منافي عظيمة لا يطفئ حرها عناقٌ عابر، وثمة أحبة برقوا كالذهب كلما إختبرتهم الأيام وأهالت المصائب على قلوبهم؛ لينهضوا من بين أحزانهم كطائر الفينيق، يعودون للتحليق كحمامات السلام، ويحطون على القلوب بلسماً وشعوراً مريحاً في كل مرة.
تخبرك السنوات بالأحبة الصادقين، وبأخيلة العلاقات اللحظية العابرة، لن تحتاج لأن تختبرها؛ تجدها مع مرور الأيام قد إنتهت دون تدخلٍ منك، لأن مدة صلاحيتها قد إنتهت، ذابت بمرور المواقف وكأن تاريخ صلاحيتها لا يتعدى الأشهر..
هناك الملايين الذين يعيشون وحشة منقطعة النظير، بعد أن عاثت الحرب في دواخلهم خراباً؛ ففقدوا الوطن، الأحبة، الشوارع، الأيادي الممسكة، والقلوب الحانية، يلفحها برد الغربة القاسي الجاف، وتهينها لحظات الوحدة الكئيبة، وتكبيها ليالي المهجر الغريبة، فكلما خطر ليها طيف حبيبٍ بكت.
نزار عبدالله بشير
ديسمبر 2024