شبكة الراهن الاخبارية

رسائل من المنفى

رسائل من المنفى

نزار عبدالله بشير

إلى أمي التي خبأت لي العيد
لحين عودتي فادخرت لأجلي كل
طقوس العيد وأدامته في قلبها للأبد

ها قد أتي الحادي والعشرين من مارس، حيث ستمتلئ الشوارع في العالم بعبارات المحبة والتهاني للأم، وترتصف أجهزة الإعلام تنشد مجد الأمهات ودورهن العظيم منذ الأزل، وحدي أعرف أن حجم الحب في قلبك (للكل) لا يوازيه تعبير ولي أكبر من كل المُتَخيل و المعروف…
رأيت يا أمي أثر الحرب على الأمهات و هن قد تكسّرَت خواطرهن وأُفزعت قلوبهن بما لاقين في الحرب، الحرب مفزعة يا أمي، نسيت أن أخبرك بأن الشيب قد بدأ ينبت في رأسي، أعلم أنك تضحكين على ذلك؛ ولكني أقسم لك أنها حقيقة وأننا يا أمي شِخنا عشرات السنوات في عامٍ واحد، أعرف أنني ما زلتُ إبنك الذي يحبو تحت ناظريك وسأظل للأبد ولكن الحياة لا تترك أحدا…
شاهدت البارحة مغنٍ يؤدي أغنيته المحببة (باقي الدموع الفي عيني.. يا يمة ما بِغلن عليك…) وكان الناس يتفاعلون معه رقصاً وتصفيقاً وهو منغمسٌ في الأداء كمن يريد أن يوصل (ذرتي يورانيوم) ببعضهما حتى وصل به الأداء إلي النداء..
” يا أمي بشتاق في الغياب..
والشوق بزيد وقتين أجيك.. “
ولكنه لم يستطع تخطي النداء حيث ظل لفترة من الزمن يغني مقطع واحد (أمي.. أمي.. أمي) وكان الجمهور في حالة من التفاعل وهو مغمض العينين لا يرى أحد، لم يلاحظ الدمعة التي تسربت على خده الأيمن ومسحها بسرعة خاطفة خشية أن يلحظها أحد من الحاضرين؛ عرفت يا أمي أنه يناديها، ينادي أمه؛ وفي الزاوية هناك كان رجل خمسيني وحده الذي يجهش بالبكاء دون كل الراقصين على الغناء فعرفت أن الفقد وحدهم، وفهمت أن الفجيعة تُوِحد والحزن يجمع…

الناس مُراءون يا أمي في كل شئ، حتى في عواطفهم؛ أعرف أنك لا تصدقين وكيف تصدقين شيئا لم تختبريه و لم يخطر حتي ببالك ولكني أقسم لك أنه كذلك، منافقون في محبتهم وصداقتهم، حتي حبهم يكذبون فيه، لا أعرف كيف ينافق المرء تجاه مشاعره، كيف يكذب في شعوره، وهل هناك شئ يجب أن يكون أصدق من مكنون القلب.. ؟؟
أعرف أن الحياة تبدِّل الناس، أعلم أن الحرب تغيّر الناس؛ ولكن ليست لهذه الدرجة؛ لدرجة أن يبيع أحدهم إنتماءه لقلبٍ أحبه وترك من أجله كل العالم، الناس يبيعون الخذلان، وآخروم يشترون الوهم يا أمي.. أعرف أنك لا تفهمين هذا التعقيد الذي أقوله ولكن فليكن ضمن جلسة استماعك المحببة لي وأنا أهزي بالمفهوم و غير المفهوم…

رأيتٌ أطفالاً يشيخون، ونساءاً يهرولن نحو المصلحة وإن كلفهن الأمر أن يتركن لأجلها (من باع العالم) ليست هذه كوابيس يا أمي ولكنه واقعٌ لم تختبره عاطفتك الصادقة ولا قلبك الطفل، شخنا نحن يا أمي رغم طفولتنا، صرنا مجرد هياكل من رمل تتفتت إذا هبت عليها عاصفة، نحن من رملٍ لا تصدقي مناظرنا التي تدّعي القوة ففي كل قلبٍ زاوية من حنين…
تتشابه الأيام هنا لدي الناس، فاليوم كالأمس والغد كالبارحة، والليل كالنهار، والنوم والاستيقاظ سيان، إختلط طعم الأشياء لدى الناس، صرنا يا أمي نحتسي في الجلسة الواحدة ثلاثة أكواب قهوة والصداع قائم وكأننا نبحث عن دواءٍ في القهوة، الأشياء هنا بكثرتها لا بصدقها، بعددها لا بجودتها، الناس هنا يقدسون العدد فمن يملك سيارات أكثر هو الأفضل، ومَن يملك هواتف أكثر هو الأغنى ومَن يملك معارف أكثر هو الأعرف، ومَن يحلف أكثر هو الأصدق، لا أحد يتقين من شئ على وجه الخصوص الناس تنتابهم الريبة في كل شئ حتى أنا أصابني منها شئ فالخوف ملازمٌ ما حلّت الخُطى ولكني لم أنس وصيتك الصلاة في وقتها وأن لا أظلم أحد، حفظتها يا أمي من كثرة التكرار…
هل لي بطلبٍ أخير، لماذا لا تشملي هؤلاء الناس بدعواتكم لطالما اعتبرتي الجميع أبناءك، عسى أن يهديهم الله ويعودوا إلى صوابهم فما عاد مِن صادقٍ فيؤتمَن ولا مِن خِلٍ يُلجأ إليه..
سلامٌ وقُبلةٌ على رأسك..
إبنك المُحِب..
21 مارس 2024

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.