إليكم هذه القصة الخيالية من تأليفي أولاً:
قام السيد (توفيق) مدير فندق (س) الفخم في العاصمة بتوظيف الشاب (محسن) لسببٍ ما - على مضض - في وظيفة إدارية عادية يستطيع أن يؤديها اي شاب آخر يمتلك دبلوم أو بكالريوس في الإدارة.
بعد شهر واحد لاحظ المدير أن الشاب الجديد سريع التعلم واستطاع أن يؤدي كافة المهام الموكلة إليه بإتقان، وبعد شهر آخر وجد أن علاقات الشاب الاجتماعية مع زملائه أصبحت واسعة وصحية وخلقت بيئة عمل إيجابية. في الشهر الثالث كان الشاب (محسن) ينجز أعماله ويساعد زملاءه في إنجاز أعمالهم.
في الشهر الرابع بدأ بعض نزلاء الفندق الاجانب يتعرفون على (محسن) ويستمتعون بالحديث معه لأنه يجيد اللغة الإنجليزية بامتياز أولاً ولأنه واسع الثقافة وخفيف الظل ثانياً. وفي الشهور اللاحقة بدأت بعض الشخصيات النافذة في العالم تحجز غرفها وأجنحتها في الفندق قبل القدوم إليه عبر (محسن)، لدرجة أنَّ السيد (توفيق) أحسَّ أن غياب (محسن) عن العمل قد يتسبب في فقده لبعض النزلاء المهمين.
بعد ستة أشهر شاهد المدير الشاب (محسن) وهو يصور بهاتفه الفندق من زوايا متعددة، ويصور بعض غرف الفندق من الداخل، ويصور بعض أصدقائه من النزلاء الذين يثقون فيه وهم يجلسون داخل الفندق في ساعات مختلفة من اليوم. بعد اسبوعين فوجئ المدير بالشاب (محسن) يدخل عليه في مكتبه ويعرض عليه مشروع تسويق رقمي بمحتوى مصور للفندق وللخدمة التي يقدمها لنزلائه. شاهد المدير المحتوى الذي صوره (محسن) بدهشة، اقترح (محسن) أن يبدأ بث المحتوى في حسابات قنوات التواصل الاجتماعي الخاصة بالفندق فوراً، وهي القنوات التي اقترح (محسن) أن يتم التوسع فيها ولا سيما قناتي الفندق على اليوتيوب والتك توك الأوسع انتشاراً.
وافق المدير على مشروع التسويق الرقمي المقترح، ولم تمر ايام قليلة حتى ظهرت نتائجه، إذ تم تحسين تصنيف الفندق من درجة رفيعة إلى درجة أرفع.
لم يتوقف (محسن) عند هذا الإنجاز، بل انتقل من المحتوى المصور إلى المحتوى المكتوب، فأعاد صياغة الكلمات المفتاحية التي تعرِّف بالفندق، مما سهل الوصل إلى موقعه والتعريف عنه والتسويق له عبر محركات البحث العالمية، وصار عدد (نقرات) الدخول إلى موقع الفندق وقنواته المختلفة يعد بالآلاف يومياً.
ترقَّى (محسن) في وظيفته بسرعة حتى أصبح نائباً لمدير الفندق، وصار يقف بنفسه على عمليات التطوير المستمر لأداء الفندق العيني والخدمي.
وفي يوم من الايام كان المدير يجلس جلسة صفاء مع الشاب (محسن) فقال له بالحرف الواحد: ترردتُ كثيراً في تعيينك بالفندق في أول الأمر، يا إلهي.. أي خسارة كنت ساخسرها إن لم أقم بتعيينك، كيف لم أرَ كل هذه القدرات المهولة فيك عندما قابلتك لأول مرة؟
انتهت القصة.
الآن أقول: إن متعددي الشغف المبدعين من أمثال الشاب (محسن) في قصتي الخيالية هم كنوز لا تُقيَّم بثمن في عالم الإدارة، و(المسمي الوظيفي) المحدود المهام هو بمثابة قيد كبير بالنسبة لهم، ولذلك نحن نحتاج إلى تعزيز الفكر الوظيفي في ما يتعلق بنظرتنا لقيمة وتأثير مواردنا البشرية، يجب علينا أخذ الحذر الكبير في ما ندعوه (الوصف الوظيفي)، إذ أن هناك موظفون محتملون تكون مقدراتهم أكبر بكثير من (الوصف الوظيفي) لوظيفة ما، وعلى الذين يجرون المعاينات والمقابلات أن يوافقوا على مَن يتوافقون مع (الوصف) الذي يستهدفونه، ولكنهم أيضاً يجب أن يكونوا في حالة بحث دائم عن متعددي الشغف المبدعين، وإذا تم العثور عليهم يجب أن يتم التمسك بهم، وأن تُفجَّر طاقاتهم بحكمة في طريق الإنجاز، وذلك على ضوء الإشارات المقترحة التالية:
إشارة اولى: متعددو الشغف المبدعون لا تتم إدارتهم بطريقة تقليدية، بل يتم إشراكهم تدريجياً في (القيادة).
إشارة ثانية: المؤهل ليس صاحب الكلمة الفاصلة، فمتعدد الشغف المبدع قد يكون حاملاً لمؤهلٍ لا يعبر – أو يعبر عن جزء يسير فقط – عن قدراته الحقيقية.
إشارة ثالثة: إلزام متعدد الشغف المبدع بالبقاء في مهام (المسمى الوظيفي) الذي يشغله هو اغتيال كامل له، واغتيال كامل للفرص والإنجازات الكبيرة المحتملة التي يمكن أن تتحصل عليها المؤسسة منه.
إشارة رابعة: متعدد الشغف المبدع لا يشكل المال ولا المسمى الوظيفي الرفيع كل غاياته ومقاصده، فهو يجد (الاشباع الوظيفي) – أيضاً – في تحقيق النجاح وفي الوصول إلى الآفاق الرحبة، وحصوله على التقدير غالباً ما يكون مكافأة قيمة جداً عنده.
إشارة خامسة: الشوارع مليئة بمتعددي الشغف المبدعين الذين لم يكتشفهم احد.
إشارة سادسة: هناك علامات عديدة تساعد في التعرف على متعدد الشغف المبدع، وهناك أسئلة معينة يمكن توجيهها له في مقابلة التوظيف وجهاً لوجه – المعاينة – تعزز من تأكيد التعرف عليه، والاستفادة من قدراته غير المحدودة لاحقاً.
إشارة سابعة: ماذا لو تعرفت الدولة على متعددي الشغف المبدعين في عمرٍ مبكر، ووجهت إليهم المعارف والمهارات والسلوكيات التي يحتاجون إليها خلال رحلتهم في طريق التعليم من أوله إلى آخره؟ ألا يُعد ذلك استثماراً حقيقياً في راس المال البشري؟ ألا يؤدي ذلك إلى تحقيق قفزات كبيرة على مستوى الحضارة البشرية؟
إشارة ثامنة: متعددو الشغف موارد – بشرية – متجددة، مثلها مثل الشمس والرياح والبحار، وعلى الفكر الاقتصادي والاداري في كافة القطاعات أن يتوجه بقوة إلى الاستثمار – الأخلاقي – فيها.
إشارة تاسعة: بجانب مقابلات التوظيف – المعاينات – تعتبر الدورات التدريبية وسائلاً فعالة لاكتشاف متعددي الشغف المبدعين.
إشارة عاشرة: أكبر عدو لمتعدد الشغف المبدع هو رئيسه المباشر الذي يشعر بالخوف من تفوقه عليه، والمدير المتبع لمدرسة الإدارة التقليدية القائمة على أساس البيروقراطية، وأعداء التغيير عموماً.
الإشارة الحادية عشرة: متعدد الشغف المبدع يحمل عقلية رائد أعمال، وليس مدير اعمال.
الإشارة الأخيرة: إذا كان الفكر الإداري الحديث يعمل على إيجاد وخلق وتحفيز وتوظيف مقدرات المبدع في مجال واحد، فإن متعدد الشغف المبدع يُعدُّ كنزاً ثميناً جداً، وعلى الفكر الإداري أن يقف عليه أكثر وأعمق.
د. فائز أحمد علي
سلطنة عمان / مسقط
الأثنين 22 أبريل 2024م