كل الذين مروا بهذا الدرب كانوا يلهثون من وعثاء السفر و كأنهم يستجدون الوقت ليملهم للحظات لإلتقاط أنفاسهم كي يواصلوا السعي من جديد.
ما الذي يمكن أن يقوله إنسان قد تجاوز من العمر ثلاثين عاماً قضاها ركضاً دون أن يصل لوجهةٍ واحدة…
كان يستمد من إرادته قوةً لإكمال المشير كلما شعر بوهنٍ عابر، تخيّل أن في قادم الأيام واحةٌ تنتظر و آمال مرصوفة علي عتبات جنته المنتظره…
كان كلما حاصره التعب أطلق خياله ليرى نفسه متكئاً على آريكته المريحة تتوزع على زواياها الوسائد المريحة و صنوف الملذات أمام ناظريه، تَصورَ أنه هناك سيجتمع بأصدقائه الذين لم يجد الوقت ليجتمع معهم على جلسة قهوةٍ، سيتآنسون و يضحكون دون أن يخشون مضي الوقت الذي يخافون.
عمر الثلاثين، يا لهذا الهاجس المُخيف، و كأنه يجمع كل مخاوفك و يقدمها لك في عامٍ واحد، كنت قبل ذلك السِن تتقاذفني التساؤلات لماذا يكتبون عن عمرٍ ككل السنوات التي مروا بها، فالعشرينات كالثلاثينات و مثلها الأربعينات…
كيف لهم أن يضخموا سِن قدّر الله أن يمر بها كلٌ مَن كُتِب له أن يعيش حتى هذا السِن؟ حتى مررت بها محطةً من العمر كان لابد أن نلقاها، أن تحتشد أمامك كل مخاوفك في آن واحدٍ…
في الثلاثين ستواجه كل أحزانك التي واجهتها بشجاعة في عمرك الماضي، كل بكائياتك التي تخلصت منها بذكاء تأتيك فجأة، كل خذلانك سيمثل أمامك، ستواجه كل شئ في أضعف حالاتك و أشدها وهناً..
تخيل أن تمضي أعوامك هرباً من الأشباح، و الكائنات المرعبة، كنت في كل مرةٍ تستحث قواك في كل تحدٍ جديد فتفوز بسباق النجاة و تعبر إلى نقطةٍ جديدة..
لتتفاجئ بكل ما تركته وراءك ينتظرك في المحطة القادمة يترقب حضورك مستعداً لإلتهامك و قتالك، و أنت كما في الأحلام تماماً تركض بأقصى أنفاسك مرتدياً أحذية خرصانية ثقيلة تجرك للوراء كلما حاولت التقدم، تحاول الهرب و من خلفك تزحف كل مخاوفك بسرعة البرق فتعيش الخوف خوفين.
في الثلاثين ستلتقي بكل جراحات الحب الماضية لتعيشها من جديد، لن تبخل عليك الذاكرة بصور الذين أحببتهم فرحلوا دون أن تحظى بلحظة عناقٍ عابرة…
ستشاهدهم يرحلون دون أن يكون لك القدرة لتفعل شئٍ لتوقفهم، ستقف على كل خيباتك الماضية أمامك و انت غارق بها و عي تحيط بك من كل جانب، كأن أحدهم قد أغرقك في كومة أوراقٍ و عصفت بها الريح و أنت هناك بالداخل.
في الثلاثين ستشاهد مرةً آخرى إبتسامة أحبتك الذين رحلوا، و ربما لوحوا لك بأيديهم قبل أن يختفوا للمرة الأخيرة و للأبد، سيمحنك الوقت لتبكي طويلاً و كأنه يعوضك كل بكاءك الذي تجاوزته في عمرك الماضي بحجة القوة و العيب.
في الثلاثين ستعصف بك الأفكار و تمنحك الحياة حرية التحرك في كل الإتجاهات و لكن دون خريطة، و كأنك رائد فضاء قد فقد جاذبيته للتو فأصبح مُعلَقاً في الفضاء..
لكل الذين مروا من هذا الدرب، كيف مررتم هكذا دون أن يصيبكم ما أصابنا، فلقد صعبتم علينا الرحلة، كيف تخطيتم كل هذه الأحداث المؤسفة، من أين أتيتم بقوةٍ آخرى للتخطي بعد أن خارت القوى في الركض فيما مضى من سنوات…
في الثلاثين ستكون شاباً بقلب شيخ، و شيخٍ بملامح شاب، ستكون في المنتصف تماماً، لستَ عاجزاً و لستَ قادراً، ستكتشف كم كنت مخدوعاً حين تصورت أنك ناضجاً بما يكفي لتواجه متاعب الرحلة..
في الثلاثين ستتذكر كل الأحداث و تجلس تشاهدها بعجزٍ دون أن تفعل شئ، ستبكي كثيراً أو تكتب كثيراً حتى يمل القلم منك، ستدرك أن الأمر ما كان و ما سيكون بيد الله..
في الثلاثين، اللهم أسألك غفراناً و صفحاً فيما مضى.. و توفيقاً يحالف خطواتي في الآتي، و سعادةً تشبه كرمك يا أرحم الراحمين.
نزار عبد الله بشير.
الخرطوم 4 يوليو 2022
معاد نشره.