شبكة الراهن الاخبارية

هل يستطيع الشخص الإدلاء بدلوه في كل بئر؟

كتب: محمد عباس الباشا.

يتعلم الإنسان بالتجربة، فهي أم العلوم، و تتطور المعرفة بالممارسة العملية.
كانت التجربة مطلقة عندما كان كل بني البشر ينشدون المعرفة من خلال التجربة، لم تكن هناك أسس لمعايرة التجارب، كما لم توجد بعد وقتها مسميات للعلوم، بل لم يكن هناك شخص متخصص في علم بعينه دون غيره من العلوم، فإن وجد العالم فهو ذو الرؤية حيال الكثير من أوجه المعرفة و مجاميع العلوم، كان جاليليو جاليلي مثلا عالما فلكيا و فيلسوفا و فيزيائيا و موسيقيا و كاتبا و صانعا و منظرا، و كان بن الهيثم عالما موسوعيا أحدث أبنية راسخة في البصريات و الرياضيات و الفلك و الفيزياء و الهندسة و الفلسفة و له مؤلفات و تجارب.
بالرغم من أن أكثر الإنجازات العلمية التي نقلت حياة البشرية لحاضر مختلف جدا قد أنجزها علماء موسوعيون، إلا أن فكرة الموسوعية ليست صادقة في دعمها للإنجاز العلمي و المعرفي، و يدلل على ذلك أن الفرع من فروع العلوم بحر لا تحصى جواهره، كما لا تحسب موانئه، إذ يمكن لمسألة في فرع من علم تتألف من عدة كلمات أن تلتهم أعمار أشخاص و أجيال حتى يتوصل العاكفون عليها للحل.
كلما انفتح باب من أبواب العلوم الحديثة و بدا للإنسان أن الحياة بكل تفاصيلها قد تمضي قبل أن يدرك من العلم قمته، كلما ازدادت القناعة بأن الموسوعية في العلوم وهم التقم أوقاتا غالية من أعمار علماء كان يمكن أن يكون إسهامهم في حياة البشرية أكبر، لو أنهم التزموا جانبا من علم، و وهبوا حياتهم لكشف مجاهله.
لقد خرجت العلوم الطبيعية من براثن الفلسفة، و أصبحت الكيمياء على سبيل المثال علما لا علاقة له بالسحر، و تحرر علم الفلك من التنجيم، و لم يعد الفيزيائيون و الرياضيون فلاسفة، و تناسلت العلوم تناسلا كثيفا بحكم السعي ناحية الإحكام و الدقة و ضبط الدلالات، و لم تعد أبواب العلوم الكبيرة تخصصات في حد ذاتها بعد ما أصبح الطلاب الدارسون يقفون قبالة أبواب يعز حصرها من العلوم في نطاق العلم الواحد.
لقد ساعد تحديد العلوم و تعريفها و تدقيق نطاقاتها في تبديد فكرة موسوعية العالم، بل لم تعد مسألة ذروة العلم تثار من قبل الفلاسفة و المنظرين، فمع التخصصية الدقيقة يبدو العلم أكثر ترتيبا في عيون الباحثين، لكنه يظل في ذات الوقت أكبر بكثير من أعتى جهد يبذل لتحصيله و إدراكه.
من أكبر المخاطر التي تهدد قدرة الفرد على إنتاج المنجزات العلمية و الأعمال فكرة موسوعية العلم، حيث لا يحتمل عالم اليوم أن نتعامل مع قضاياه فقط بالثقافة دون العلم، إذا لا تكفي سعة الاطلاع مهما بلغت لوصف الشخص المتصف بها بأنه “عالم”.
من الذي يحق له تقديم النقد؟
و من الذي يحق له تقديم المقترحات؟

المزيد من المشاركات


لن تحمل الإجابة ظلما لطرف طالما كانت تثبت للمختصين في بحر معين حقهم في أن يقدموا النقد و الاقتراح بناءا على العلم و التجربة العلمية، و الخبرة العملية.
حينما يثار نقاش حول قضية ما، يلتفت الكثيرون بدافع الاهتمام نحو ساحة النقاش الإسفيرية تلك، و هم يأملون في تحصيل علم، أو حيازة معرفة، أول الاستفادة من أطروحة جديدة في مجال تخصصهم، عندها تضيق الساحة بالمتحدثين، و لا يجد أصحاب الشأن بدا من الانصراف.
علينا أن نسلم بأن الثقافة العامة و القدرة على بناء التصورات الشخصية لا تؤهلنا لإجراء مناقشات علمية مع المختصين في الكيمياء و الفضاء و الإعلام و الطب و غيرها، فتلك العلوم ينفق الدارسون من أعمارهم الكثير لدراستها و ممارسة ما تعلموه منها، و تكوين دليل شخصي لكل منهم تنسجه السنوات بنسيج الخبرة و البراهين و التجارب.
لا ينبغي أن تنتقل منابر العلم إلى فضاءات أرحب في وسائل التواصل الاجتماعي إلا وفقا لرؤى تمنع اختلاط حديث العامة بحديث العلماء، و تحول دون مزج ما لا يمتزج، و تثبت للباحث و الطالب و العالم حقه من الإجلال.
في عالم اليوم، بدلا عن الانصراف تجاه التخصص الدقيق بالتعليم النظامي أو الذاتي أو غيره، نجد أسواقا للانطباعات تنصب، و بضائع للرأي في غير مواضعها، و يفاجئك أحدهم و بثقة بتقديم معلومات يعتقدها على أنها مسلمات علمية في مجال أنفقت فيه العمر تعليما و ممارسة و تقطيرا للخلاصات المفيدة.


لا بد من وجود التخصص كأساس معرفي، و من ثم للإنسان إن شاء الاطلاع على العلوم و المعارف الأخرى كمضافات لتخصصه الأساس، إذ لا يحق لمتحدث تقديم نقد أو اقتراح في مجال معين ما لم يكن مختصا في ذلك العلم، نحن نختص بعلم من العلوم نختاره، أما العلوم الأخرى فهناك من اختاروا دراستها منذ سنوات طويلة، و نهلوا من مناهلها ما استطاعوا، هؤلاء هم من نحصل منهم على العلم و الثقافة و المعلومات، لا أن ننازعهم ما يعلمون ببعض ما لا نعلم.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.