شبكة الراهن الاخبارية

بعد أكثر من عام هذه هي خسائر الحرب و الطريق الوحيد للحل

كتب: د. فائز أحمد علي.
………………………………….

لم يحقق الاقتصاد السوداني في السنوات القليلة السابقة للحرب ـ وفق تقرير البنك الدولي الصادر يوم الثلاثاء 10 يناير 2023 والمسمى (توقعات الاقتصاد العالمي) ـ نمواً في الناتج المحلي الإجمالي، حيث عاني من نموٍ سالب بلغ -3.6% في العام 2020، ليتحسن قليلاً ويصبح -1.9% في العام 2021، ليتعافى قليلا ويبلغ 0.3 % بحسب تقديرات البنك للعام 2022.
توقع البنك الدولي في ذات التقرير أن يحقق الاقتصاد السوداني نمواً إيجابياً في الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2023 ليبلغ حوالي 2%، وتوقع أيضاً أن يتعزز هذا النمو (ببطء) في العام 2024 ليبلغ 2.5%.
ولكن، في يوم السبت 15 أبريل 2023م ـ أي بعد ثلاثة أشهر من تقرير البنك الدولي ـ اندلعت الحرب في السودان، لتذهب كل آمال النمو الاقتصادي أدراج الرياح، ولينخفض معدل النمو الاقتصادي إلى -18.3% في العام 2023م.
الآن وبعد مرور أكثر من عامٍ على الحرب تراجع الاقتصاد السوداني بمعدل 42%، ويُقدَّر حجم الخسائر بـ 200 مليار دولار. خسائر البنى التحتية والمعلوماتية وحدها تُقدَّر بنحو 36 مليار دولار، وخسائر القطاع الصناعي تُقَّدر بنحو 15 مليار دولار، وخسائر القطاع الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي تُقَّدر بأكثر من 20 مليار دولار، وخسائر القطاع الصحي تُقَّدر بنحو 13 مليار دولار، وخسائر قطاع التعليم العام والعالي تُقَّدر بنحو 16 مليار دولار، أما خسائر القطاع المصرفي فتُقدَّر بـ 20 مليار دولار.
والأمر يزداد سوءاً، فتكلفة المعارك في البلاد تُقدَّر بنحو نصف مليار دولار يومياً، وعدد القتلى حتى الآن يُقدَّر بنحو 17 ألف قتيل، وعدد النازحين قد بلغ 10 ملايين و700 ألف نازح.
وأمام توسع الحرب إلى ولاية الجزيرة في وسط السودان، وتأثُّر مشروع الجزيرة أحد أكبر المشروعات الزراعية في أفريقيا، تراجعت المساحة المزروعة في البلاد لتصبح 37% فقط من إجمالي الأراضي المُعدَّة للزراعة، وهذا أحد الأسباب التي أدت إلى وصول نسبة الفقر إلى 90%، ليتعرض بذلك 25 مليون مواطن للمجاعة، منهم أكثر من 14 مليون طفل، وبحسب مدير برنامج الأغذية العالمي في السودان، إيدي رو، أنه: )في هذه المرحلة، أقل من 5% من السودانيين يستطيعون تأمين وجبة كاملة في اليوم).
الآن، أكثر من 60% من مناطق البلاد تعاني شحاً كبيراً في إمدادات الكهرباء والمياه وخدمات الاتصالات، ولا زالت العديد من المناطق في العاصمة ومدن أخرى تعيش في ظلام دامس، وتوقف كامل لإمدادات المياه منذ الاسابيع الأولى من الحرب.
في ظل توقف 70% من النشاط الاقتصادي، توقع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية (أوتشا) في السودان في بيانٍ له؛ انكماش الاقتصاد بنسبة 12%: (لأن الصراع أوقف الإنتاج ودَمَّر رأس المال البشري وقدرات الدولة).
الحرب في السودان لا تنحصر آثارها الاقتصادية على الداخل فحسب، بل لها آثار اقتصادية كبيرة على المنطقة بأسرها، وعلى دول الجوار بالذات. وقد قالت الأمم المتحدة إن الحرب في السودان قد أثرت بشكل كبير على البلدان المجاورة، خصوصاً دولتي تشاد وجنوب السودان، حيث يؤدي تعطل التجارة ونزوح أعداد كبيرة من السكان إلى استنزاف الموارد وتفاقم الجوع.
أما بالنسبة للجانب النفسي فقد أظهرت دراسات علمية أنّ الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الحرب أو يفرون عنها مُعرّضون بشكل عام لخطر المعاناة من الاضطرابات النفسية والعصبية، وقد كشفت مصادر رسمية لوزارة الصحة بالسودان ارتفاع حالات الإصابة بالأمراض النفسية، وعزت المصادر أسباب الارتفاع إلى الحرب التي دخلت عامها الثاني. وجاء على لسان أحد الخبراء السودانيين المختصين في علم النفس: (إنّ الحرب غيّـرت البصمة النفسية لدى أغلب السودانيين حتى الذين كانوا بالخارج، إذ تعرّض أغلب السودانيين لضغوط نفسية مُتصاعدة، لا تنحصر في نوبات الهلع والتوتر الملازمة لاستخدام الأسلحة، بل لاستخدام أسلحة مدمرة للأعصاب كالاغتصاب والسرقات والتعدي، وهذه علمياً تُعد من أخطر أسلحة دمار الإنسان). وجاء على لسان اختصاصي نفسي سوداني آخر: (الانتهاكات المُروِّعة ومنها الاغتصاب الذي استخدم على الدوام كسلاح بالمعارك، عادةً ما تنتج عنه اضطرابات نفسية شديدة للضحايا، خاصّةً عند حدوث الحمل، فعندها يصبح الدعم والتأهيل النفسي والاجتماعي للضحايا صعباً جداً. كذلك النازحون واللاجئون الفارون من جحيم الحرب وويلاتها، ليسوا في مأمن من الاضطرابات النفسية والعصبية، فهناك أشخاصٌ لا يستطيعون نسيان ما حدث لهم وفقدان الأهل والأقارب وتدمير المنازل والممتلكات مهما حاولوا. وحقيقةً نحن أمام تحدٍ كبير جداً، لأن الآثار المدمرة لم يتم الانتباه إليها ومعالجتها حتى الآن).
ويتجسد تأثير البعد النفسي لصدمة الحرب عموماً على الاقتصاد في تقديرات منظمة الصحة العالمية التي تفيد بأنَّ: (22.1% – أي واحد من كل خمسة – من الأفراد الذين تأثروا بالمحن في الأشهر الـ 12 الماضية يعانون من اضطرابات نفسية، 13% يعانون من الأشكال الخفيفة من الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة، و4% يعانون من الأشكال المتوسطة، و5.1% يعانون من اضطرابات شديدة مثل الفصام، والاضطراب ثنائي القطب، والاكتئاب الشديد، والقلق الشديد، واضطراب ما بعد الصدمة الشديد، وبالتالي يعاني 9.1% – حوالي 1 من كل 10- من اضطراب عقلي شديد الخطورة يمكن أن يضعف قدرتهم على العمل والبقاء على قيد الحياة في حالات الطوارئ).
ولحسن الحظ فإنَّ منظمة الصحة العالمية تعمل على تعزيز دمج الصحة العقلية في الرعاية الصحية الأولية كوسيلة فعالة للوصول إلى عدد كبير من الأشخاص المتضررين. وعلى وجه التحديد، يهدف تنفيذ خطة عمل الصحة النفسية في جميع البلدان تقريباً التي تعاني من حالات الطوارئ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك: أفغانستان والعراق والأردن ولبنان وليبيا وباكستان وفلسطين والصومال والسودان وسوريا.
الواقع الماثل أمامنا الآن أنَّه بناءً على الدمار المادي والنفسي الذي وقع وما زال يقع بعجلة تصاعدية يومية؛ هو أنَّنا فقدنا النسبة الأكبر من موارد دولتنا، وما زلنا نفقد مواردها أكثر وأكثر. فما هي أقرب تجربة أفريقية لنا يمكن أن نستفيد منها للخروج من هذه الكارثة، وإعادة بناء الوطن؟ أقول بالتأكيد هي تجربة رواندا.
نحن لا نريد أن يصل عدد قتلانا إلى مليون قتيل كما حدث في رواندا إبان حربها الأهلية القبلية بين عامي 1993 و1995، نريد أن نتعلم وبسرعة من تجربتها قبل أن تتفاقم خسائرنا إلى هذا الحد.
نقطة التحول في رواندا كانت عندما تولى رئيسها بول كاغامي السلطة عام 2000م، ووضع على الفور أمامه هدفين؛ الهدف الأول: توحيد الشعب، والهدف الثاني: انتزاع البلاد من الفقر. وتمَّ تنفيذ الهدف الأول من عدة محاور، في مقدمتها تحقيق المصالحة المجتمعية، وإنجاز دستور جديد حظر استخدام المُسميات القبلية، وجرَّم استخدام أي خطاب عرقي.
ومع تحقيق المهام في الجانب الاجتماعي، اتجهت الحكومة إلى الاقتصاد، فقدَّم الخبراء دراسات تحولت إلى ما يُسمى (رؤية 2020 الاقتصادية) التي شملت 44 هدفاً في مجالات مختلفة. وبتوالي الانجازات في تحقيق هذه الأهداف تمت النقلة الكبرى في البلاد، فبلغ اقتصادها نمواً ناتجه المحلي 9% سنوياً، وارتفع متوسط دخل الفرد عام 2015م إلى ثلاثين ضعفاً عما كان عليه قبل عشرين عاماً.
إذن، فمهما طال أمد الحرب، ومهما أجَّلنا مواجهة قضايانا الوطنية الكبرى الحقيقية؛ سيظل الطريق الوحيد إلى الحل هو نفس الطريق الذي سارت فيه رواندا؛ المصالحة المجتمعية المدعومة بدستور الدولة، ثم الخطط الاقتصادية التي يضعها الخبراء، مع الالتزام الصارم والعمل الدؤوب لتحقيق الأهداف. هذا هو طريق الحل الوحيد، ولعل ملامح هذا الحل تفتح أبواباً لإيقاف الحرب، لتضعنا بعد ذلك أمام واجبنا الوطني الكبير، المتمثل في بدأ المسيرة المباركة.


عُمان / مسقط
الأربعاء 22 مايو 2024م

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.